وجدان عبد العزيز/
الحقيقة أننا لانتحدث عن الثقافة بمفهومها العام والمتمثلة في المنظار الذي ينظر الإنسان من خلاله لذاته ولبقية البشر وللأشياء، إنما نركز على لغة الحوار كثقافة. وبطبيعة الحال، فإن «الآخر» هو المغاير للذات أياً كان سبب المغايرة، وهو المعني بالحوار، وهنا صلب موضوعنا في شد الرأي العام لثقافة الحوار خاصة، كوننا ندعو لهذا بحرص استلهاماً من مسار الأحداث الموغلة في التاريخ، حتى عصرنا الحالي، فقد ظهرت ثقافة حوار قادت ثورات مهمة، كالثورة الفرنسية الكبرى، وكان المسار الذي أثاره ديكارت وأتباعه عن الحقيقة واليقين من خلال الشك، والذي أسهم في تحديث الأسلوب والمضمون في قضايا الأدب آنذاك، ما مهد إلى ظهور عصر التنوير في الثقافة الأوروبية، حيث كانت متعطشة للتغيير وناشدة للتحول الفلسفي المبتعد عن اللاهوت والمتبني للأدلة العقلية.
إدارة التعدد
أصبح من المسلّم به لهؤلاء المحدثين، الركون إلى العقل والعلم والفلسفة، وهذا جزء من الانفتاح وتنوير التوجهات إلى تطوير آفاق المستقبل بكل أبعاده، وبالتالي جعل التقدم العلمي إطاراً حتمياً لإسعاد البشر، هذا التحرك العلمي أدى إلى الانفتاح على الآخر واهتزاز الدساتير في العالم الأوروبي وجعل الإنسان المادة الأساسية لها، ما دفع إلى عملية الاعتراف بالآخر المختلف وحرية الفرد وقيام الدولة المدنية الحديثة، ثم وضع مبدأ أن أي مجتمع لا يؤمن بالتعددية الدينية والمذهبية والقومية والسياسية، هو مجتمع سكوني غير قابل للتطور.
بنية ثقافية لإقصاء الآخر
على هذه الأسس قامت الثورة الفرنسية التي رفضت الثقافة المحافظة، تلك التي كانت خليطاً من العلاقات الإقطاعية والدينية والمذهبية، حيث شكلت تلك العلاقات بنية ثقافية لإقصاء الآخر والاحتفاظ بالسكونية، وهي الثقافة التي ثار عليها رجال الثورة الفرنسية، وورثناها نحن العرب من الاستعمار الغربي، وبالتالي ولدت لدينا حكومات استبدادية، أفلحت في تحجيم تنامي المشاعر القومية والوطنية وخلق بؤر للتناحر والاحتراب الداخلي، حتى أصبحت منظومة فكرية ثقافية للتشكيلات العرقية والمذهبية والسياسية، الأمر الذي أدى إلى تحول هذا الصراع إلى شكل دموي، كونه صراعاً مصيرياً في ذهن هذه التشكيلات، ويبدو أن الأنظمة الشمولية استطاعت وأد الحركات التي حاولت أن تقف موقفاً واعياً يخالف موقف الأنظمة الشمولية السكوني بعدم الانفتاح على الآخر المختلف.
آليات بديلة
والآن إذ نعيش مفردات التغيير والقضاء على النظام الشمولي الصدامي، لا بدّ أن نتوجه إلى تحركات الكتل السياسية المتمثلة في رئاساتها ومحاولة البعض منها تأسيس ثقافة إقصاء جديدة، متغافلة عن أن هناك تشكيلاً آخر مختلفاً لا يستطيع أحد إيقافه، ودليلنا ما حدث في المنطقة، والذي أعطى هذا الآخر المختلف في العراق دفقاً حياتياً، وأصبح من المسلّمات التخلي عن النمط الفكري الأحادي والتعامل مع الواقع الذي فشل فيه المال والسلاح في إبقاء حالة الإقصاء، وتوهجت الحقيقة التاريخية الفلسفية القائلة بأن الحقيقة المطلقة ـ إن وجدت ـ فهي من صناعة العقل الجمعي لا الفردي .
هذه الحال تحتم التفكير الواقعي، البحث عن آليات بديلة لمد جسور التفاهم والاحترام، والأهم من هذا كله تعميق الإحساس بالمواطنة وتغليب آصرتها على أية آصرة أخرى، فما دمنا نعيش سوية فعلينا الترويج لسياسة التسامح والاعتراف بالآخر المختلف، وهي مسؤولية الجميع وبخاصةٍ المثقفين، ونبذ سياسة التحريم والتجريم داخل السلطة وخارجها، وأن نجعل تطبيق القانون والعدالة وتعميق الشعور بالمواطنة ثقافة أخرى من ثقافات الحوار.
الحوار أولاً وأخيراً
إن ثقافة الحوار هي التي تعصمنا من الاختلاف المذموم وتجعله اختلافاً محموداً، وتعلمنا فن إدارة الاختلاف بما يجعل من التمايزات بين البشر، مصدر ثراء وتنوع وبهجة، وأداة للتفاعل الحضاري الخلاق تتيح للشعوب «التعارف» وتبادل الخبرات والتجارب والمعارف بين بعضها «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا.» إذن ثقافة الحوار تفرض علينا خيار الحوار العقلاني كوسيلة حضارية لإدارة الاختلاف؛ سواء بتفعيل حالة الحوار الداخلي بين القوى والأطياف المجتمعية دون إقصاء أو تخوين وتكفير لأحد، أو بتنشيط حالة الحوار الخارجي لإزالة سوء الفهم والظن وتغيير الصورة النمطية السائدة والتي كوّنها كل طرف عن الآخر، وهي في الحقيقة صورة ذهنية زائفة يمكن تصحيحها لتجنب حالة الصدام والمواجهة.