نجلاء قادر /
اخترت مدينة السليمانية معبراً لهجرتي بعد أن استولت الآلة العسكرية الأمريكية على العراق في العام 2003، إذ لاحياة مع أناس لهم أطماع في بلاد الرافدين عبروا القارات واستوطنت دباباتهم في ساحة الفردوس، حيث كانت نظراتي موزعة بين لفيف الشعب المتجه صوب الفردوس وتلك الآليات التي تحمل جنوداً وعلماً أمريكياً. لذا قررت الرحيل، فكانت الوجهة السليمانية، تلك المدينة الصغيرة المقتصرة على أزقة وبيوت عتيقة وأسواق متداخلة الأضلاع، وقد وجدتني بين شعب ذي سلوك واتزان،فقلت ولمَ الهجرة؟ لأضع رحالي بين الكرد فهم عراقيون، خيراً من العيش بين أقوام لا أعرفهم. وهكذا بدأت مشواري الصحفي كاتبة للتحقيقات الصحفية في صحف عدة.
بناء وبيوت وعمارات شاهقة
خلال عشر سنوات، تمكنت السليمانية من الاستفادة من قانون الاستثمار بدعوتها الشركات الأجنبية لبناء العمارات السكنية على سفوح القمم لتسهم في حل أزمة السكن ولو بنسبة 25%، إذ استطاع مواطنوها الحصول على شقق بالتقسيط، ومن كان ميسوراً يدفع كامل المبلغ. كذلك عمدوا الى شق بطون الجبال لتعبيد الطرق بهدف التخطيط لتأسيس أحياء سكنية جديدة. هكذا تكبر السليمانية وتتسع بأحيائها وأزقتها وبناياتها الجديدة.
لم يقتصر البناء على السكن لوحده، بل في بناء المستشفيات التخصصية كمستشفى (هيوا) للأمراض السرطانية، ومستشفى الأسنان التخصصي، ومستشفيات الأطفال والنسائية، ومستشفى عملاق بسعة400 سرير، ويضيف نشاط القطاع الخاص عدداً من المستشفيات أبرزها مشفى (أنور شيخة) المتنوع الاختصاصات، الذي يراجعه المواطنون من الجنوب والعاصمة لتفادي السفر خارج البلاد والتكاليف العلاجية الباهظة.
كما استطاعت السليمانية تطوير القطاع السياحي من خلال سلسلة من الفنادق والمطاعم التي أحيلت الى القطاع الخاص الذي لعب دوراً فعالاً في اختياره المشاريع الحيوية التي تسهم بكل هذا التطور العمراني. إضافة الى مجمع دار العدالة، الذي اختير مكانه خارج مركز المدينة ليتسنى للمرور فك الاختناقات وتسهيل حركة المواطنين.
التخطيط
لم يكن التعليم العالي بعيداً عن الخطط العمرانية، بل استطاعت إدارة السليمانية أن تشيد أكبر مجمع لجامعة السليمانية بكل أقسامها إضافة الى الأقسام الداخلية. كذلك تعد السليمانية أول مدينة عراقية تحتضن الجامعة الأمريكية ذات التخصصات العالمية والكوادر التدريسية الأجنبية، كما يرتفع برج (الميلينيوم) في قلب المدينة مع سلسلة الفنادق الكبيرة، الذي شيد بخبرات عراقية بالتعاون مع الشركة الأم لبناء الفنادق.
سوق كشرايين القلب
أجمل مافي المدينة سوق قد تستكمله في أربعة أيام لتعانق (درابينه) ومنحنياته وتفرعاته العديدة، قيصريات ومحال متخصصة، إنه سوق البالة الذي يقصده كل سائح لتفرده بالبضائع الأوروبية المستعملة وغير المستعملة، هنا ترتدي مالم يرتدِه غيرك من ماركات عالمية وتصاميم وموديلات قد لا نحظى بها في سوق آخر، هنا تختلط الأصوات وتتعالى الأحاديث لتطرق مسامعك كل اللغات واللهجات. زائرو المدينة لا يختصرون بالعرب لوحدهم، بل الكرد من حملة الجنسيات الأوروبية والأجانب والعمالة الآسيوية الموجودة بشكل لافت للنظر وبأعداد كبيرة. أما سوق البالة فيرغبه أهل المدينة من ذوي الدخول المحدودة، وكذلك الميسورون، لندرة بضائعه، حتى سمي بسوق (الكشخة)، وهكذا وجدته فعلاً.
ينتهي سوق (الكشخة) بساحة الجامع الكبير التي تعج بعربات الباعة بكل ما لذ وطاب من خضر وفاكهة وأغذية معلبة وحلويات كردية، أما الرصيف فيشغله كبار السن من باعة السبح والأحجار التي يفترشون بها الأرصفة. لفت انتباهي الزي الكردي لكبار السن، فهم وحدهم من يرتدون شروالاً وعرقجينة والحذاء الكردي، موروث الآباء، بينما يعزف عنه الشباب إلا في المناسبات الرسمية.
في تلك الساحة بناية كانت فيما سبق بلدية وقائممقامية السليمانية، حيث استغل المكان لإنشاء السوق الصيني الذي استؤجرت محاله لبيع الملابس والأدوات المنزلية والأحذية وقسم كبير للمنتجات الصينية. ومن الصيني تأخذنا الخطوات صوب سوق الفواكه والخضر، الذي كرمه الباري بما حسن من هبات الأرض.
سوق القرويات
وأنت تهم بدخول السوق لابد لك من المرور بأولئك النسوة القرويات اللواتي يفترشن مدخل السوق بـ (شوالات) ثمار بساتين قراهن من الجوز الكردي الأصلي الذي يتجاوز سعره الـ 20 ألف دينار للكيلو الواحد، والجبن الجاف والفستق والحمص الأخضر والبربين والنباتات الجبلية الخضراء، حيث يزدحم عندهن المصطافون والمتبضعون لشراء أجود ما في جعب القرويات.
ومن نسوة الجوز الى دكاكين سوق الخضار المرتبة بشكل يريح العين ويفرحها ويدفعك لإخراج النقود وشراء ما تحب. هنا يهتم الباعة بتصفيف الخضار لتبدو أكثر جمالاً وجاذبية.. الدكاكين الخضراوية تنتهي بك بدكاكين القصابة واللحمة الشهية، هي الأخرى تتعمد إثارة المتبضع بتصفيفها وترتيبها، باعتبار أن العين هي التي تأكل. وبالمناسبة فإن القصابة والباجة باللغة الكردية تسمى (سروبيه).
ومن السروبيه تأخذنا (الدرابين) الى سوق البهار والبخور والعطور التي يعج بها أفق السوق، وبالتالي نكون قد وصلنا قيصرية النقيب، تلك القيصرية المتخصصة بصناعة وبيع ألذ الحلويات الكردية، أي الصنع المحلي من السجق والحلاوة واللقم والحلقوم ومن السما والكرزات والقمر الدين. هنا لامجال للعبور دون أن تقف عند (صلاح الحلوجي) لتشتري كل ما تشتهي وترغب من هدايا للحبايب والأصدقاء. ولا يفوتني أن أعرج على أقدم تسجيلات في السليمانية، التي تحمل عنوان (أوسكار)، تذكرني بمحل تسجيلات (جقمقجي)، الذي تحول الى سوق لملابس الجملة في الباب الشرقي. جقمقجي السليمانية يحتفظ بالعديد من النسخ الأصلية للأغاني العراقية التراثية وأغاني الفن الجميل، كما أنه يعد محفظة للأغاني العربية القديمة لمطربين كفريد الأطرش وعبد الحليم وأم كلثوم، وأيضا تلاحظ الكثير من صور الفنانين القديمة على جدران المحل.
نودع سوق السليمانية لنشرب استكان الشاي المهيل في مقهى الشعب، فقد لا تتخيل أن تأريخ المدينة يختبئ خلف هذا المدخل.. فهو ملتقى لرجال الفكر والثقافة والسياسة، وأحياناً يحاول المثقفون الكرد الإسهام في رسم صورة مستقبل أفضل لكردستان والعراق من خلال أحاديثهم ونقاشاتهم.. هنا في شاي خانة الشعب.