السماوة في القرن العشرين زيد الشهيد يدوّن تاريخ المدينة

باسم عبد الحميد حمودي /

أصدر الكاتب الروائي زيد الشهيد مؤخراً كتابه الموسوعي (السماوة في القرن العشرين)، موثِّقاً مدينته الجميلة التي تحتضن الصحراء مطلة على (بصيّة) وحوافها، متساوقة مع قضاء السلمان الذي يقع في قلب البادية، ليشير ضلعها الجنوبي بسهم نادر إلى قضاء (الخضر)، بوابة مركز محافظة المثنى؛ السماوة.
قدم لنا زيد الشهيد دراسة ميدانية ممنهجة عن مدينته الفخور بتاريخها السياسي وبعطائها المتنوع في الفكر والحياة والتصاقها الواضح بحركة البناء الجديدة في عراق اليوم.
الكتابة نوع من العبث
بعد ذلك الجهد الكبير في توثيق التاريخ الشفاهي الجميل المتنوع لسماوة الخير، الذي استمر لسنوات، يهدي المؤلف عمله المهم هذا إلى زوجته وولده وبناته، الذين اقتطع من حياته وحيواتهم وقتاً طويلاً مكتشفاً أن في الكتابة لوناً من العبث، لكنه هنا عبثٌ منتج قدم تاريخ السماوة الحديث في دراسة استقصائية بدت فيها مهارة الكاتب وقدرته على إيصال الحقيقة في فصول كتابه المتنوع في التاريخ والمعمار والعادات والتقاليد والصحافة وحركة النهر والشجاعة، وفي كل مجرى فكري وعملي يمتّ إلى السماوة بصِلة، بحيث قام زيد الشهيد بنقل تاريخ المدينة الشفاهي وفولكلورها على الورق ووضعه أمامنا.
يقول زيد الشهيد إن كتابه التوثيقي هذا قد سبقته ثلاث روايات كتبها في توصيف صورة مدينته درامياً وعلى مراحل وشخوص وأحداث عدة، وهو ينصح قارئ الكتاب بأن يعود إلى تلك الروايات ليجد فيها التجسيد السردي الدرامي لهوية المدينة.
السماوة – كتاب المدينة
هو الفصل الأول من الكتاب الذي نقرأ فيه مقدمة تاريخية عن العراق منذ العهود القديمة حتى نهاية الحكم العثماني الذي سرق خيرات البلاد سنوات طوالاً استمرت حتى نهاية الحرب العالمية الأولى دون أن يترك، عندما غادر العراق، سوى جادة خليل باشا المتربة في بغداد.
أليس.. اسمها القديم
عرفت السماوة قبل الإسلام باسم (أليس)، وقد اتخذتها الجيوش الإسلامية محطة استراحة ولتجميع المقاتلين تحت نخلاتها الوارفة، وكانت مقاماً للمثنى بن حارثة الشيباني .في العهد العثماني أشير إلى السماوة بوثيقة دُوِّنت عام1492م تصفها بأنها قرية زراعية تقع على نهر العطشان، ووجدها الرحّالة الألماني عام 1765م مدينة مبنية من الطين وفي باديتها ملح كثير.
عند استقلال العراق عام 1921م تطلَّب الأمر عاماً كاملاً لإحلال اللغة العربية لغة رسمية بدل التركية في المخاطبات الرسمية ودوائر (الطابو).
يشير زيد الشهيد إلى قوة الحكم المحلي الصارمة الفاسدة من حيث الرشوة وفرض الإتاوات كما هو الأمر في العهد العثماني، إضافة إلى وجود (الشقاة) في المدينة وخارجها. وينقل المؤلف عن مذكرات عبد العزيز القصاب، أنه جاء إلى السماوة قائممقاماً عام 1909م ووجد المدينة تعيش ضائقة اقتصادية بسبب نقص المواد الغذائية.
الرشوة 250 ألف ليرة!
شكا أهالي السماوة للقصاب وجود سفينتين محملتين بالحنطة يريد متعهدون نقلها إلى البصرة بأمر من مساعده! أمر القصاب بتفريغ حمولة السفينتين وتوزيعها على الأهالي وطرد وكيله، وهنا تدخل قائد الجيش العثماني في البصرة وأرسل برقية إلى القائممقام يؤكد فيها وجوب إرسال السفينتين إلى البصرة لحاجة الجيش إليهما. لم يلتفت القصاب إلى برقية قائد الجيش وطلب من تجار السماوة الإسراع بالتفريغ لئلا تتدخل بغداد، وقد علم أن مبلغ رشوة قائد الجيش بلغت 250 ألفاً من الليرات الذهبية.
غزوات الخارج وصراع الداخل
يشير المؤلف إلى أن السماوة كانت تعاني أيامها من غزوات الإخوان الوهابيين وخطفهم الإبل وقت الربيع وسلب الحلال في فصول خضرة الأرض من الرعاة المحليين في (بصيّة) وسواها، حتى الوصول إلى سور المدينة المتداعي، فضلاً عن النزاع الداخلي القبلي بين الشيخ (رباط السلمان) شيخ الجانب الغربي والسيد (طفار جعفر) شيخ الجانب الشرقي، إضافة إلى موسم الفيضان الذي استمر سنوات منها سنة 1918م التي هلكت فيها المواشي وانهارت البيوت الطينية الضعيفة الأسس والأكواخ وقُلعت سكة القطار وصار التنقل بالسيارات هو الأساس ولمسافات قريبة.
كما يروي المؤلف وقائع هجوم الجراد الأصفر على المدينة وهوس الأطفال بشرائه مسلوقاً، كما يشير إلى انعدام الماء العذب في البيوت بحيث تضطر النسوة إلى الحصول على الماء من الفرات وهن يحملن (المصاخن) والقدور حتى عام 1954م حين استطاع الميرزا حسن عضو المجلس البلدي توفير المياه الصافية.
كانت دور الوجهاء والموظفين قبل تشكيل أنابيب المياه العذبة تستعين بالسقّاء لإيصال الماء من النهر بأجر معلوم، وكانت شوارع المدينة تنار بالفوانيس النفطية ليلاً لعدم وجود الكهرباء في المدينة.
في منتصف خمسينيات القرن الماضي قامت أسرة (الإمامي) بنصب ماكنة كهرباء في ملك لهم قرب الجسر القديم كان موقعها على يسار خان شاكر الإمامي، ثم اشترتها الدولة منهم بعد هذا لتأمين بعض احتياجات المدينة حتى تم الربط الكهربائي الموحد مطلع سبعينيات القرن العشرين.
الأوائل
أول مدرسة رسمية وجدت كانت عام 1922م، وقد اقتصرت على الصفوف الأربعة الأولى، ساهم في بنائها المتنورون من عائلات (الإماميين) و(آل قدوري) و(الدهان) و(آل سعيد)، وهي مدرسة المنصور.
افتتحت أول مدرسة ابتدائية متكاملة في (عكد النجارين)، ثم شطرت المدرسة إلى مدرستين عام 1947م هما (هارون الرشيد) ومديرها خضر الشيخ محمد ومدرسة (المأمون) ومديرها عبد الرضا الغرّة.
وأذكر بهذه المناسبة أن المدرسة الموحدة كانت حتى عام 1946م بإدارة والدي (عبد الحميد حمودي) قبيل نقله مديراً إلى مدرسة (أبي صخير) ذلك العام.
كنت طالباً في الصف الثاني الابتدائي قبل نقلنا، وكان المعاون هو الأستاذ خضر، ومعلم الرياضة والصف الأول الابتدائي أستاذنا شمخي جبر، الشهير بمهاراته الرياضية المتعددة، ومن معلمينا السادة: عبد الأمير أستاذ الجغرافيا، وزيّا معلم الرياضيات، والمعلم كرجي أستاذ الطبيعيات، وكانت والدة كرجي اليهودي صديقة لجارتها الحاجة زوجة الحاج علي مصيوي وجارتها أم حميد، وهي جدتي الأثيرة، وقد كنا نستأجر الدار المجاورة لبيت الحاج علي مصيوي المطلة على البستان.
أول مدرسة للبنات هي مدرسة (خديجة الكبرى) منتصف الخمسينيات، وقد افتتحت متوسطة السماوة للبنين عام 1947م وصارت ثانوية متكاملة عام 1950-1951م.
أول سينما هي (سينما عبد الإله) عام 1948م بناها وأشرف على عملها عبد الرزاق الإمامي على الرغم من معارضة الاتجاه المحافظ في المدينة، وقد أبدل اسمها إلى (سينما الشعب) بعد ثورة 14 تموز1958.
أول محافظ للسماوة، التي عرفت لاحقاً باسم (محافظة المثنى)، هو عادل عبد الغني، وقد أعلنت في 30 تشرين الثاني 1969م منفصلة عن محافظة الديوانية (القادسية) وضمت أقضية السماوة والخضر والسلمان ونواحيها.
الحرب والتضييق على الحريات
يأخذنا المؤلف في جولة تاريخية عن الحركة الوطنية في السماوة وتظاهرات رجالها في انتفاضتي 1952 و1956م، ودور الحرب العراقية الإيرانية في التجويع والعنف وقطع الأرزاق والآذان! بل إعدام السلطة الهاربين الذي ملّوا حرباً طويلة لا مخرج منها.
وشويّة شويّة لبربوتي!
يستعيد المؤلف ذكرى ثورة العشرين، وقبلها حركة المجاهد الكبير السيد محمد سعيد الحبوبي، التي انطلقت من النجف الأشرف إلى الشعيبة لمواجهة القوات البريطانية الغازية أثناء الحرب العالمية الأولى، إضافة إلى تجمع العشائر الفراتية وقوات الشيخ هادي المكوطر وصحبه والقوات الكردية بزعامة الشيخ أحمد البزرنجي قرب جسر بربوتي، إذ كان الشيخ بربوتي السلمان يشرف على توزيع الطعام والماء للقوات المتجمعة تمهيداً لانطلاقها إلى الشعيبة .
هنا انطلق صوت المهوال يردد: (ثلثين الجنّة لهادينا) والمقصود الشيخ المكوطر، وهنا صاح المهوال الثاني: (وثلث لشيخ أحمد واكراده) فغضب الشيخ بربوتي الذي أضاف ومنح وتعب، فصاح المهوال: (وشويّة شويّة لبربوتي)، فابتسم بربوتي السلمان وهو يدرك أن لا أحد يستطيع تقسيم جنة الله، لكنها الذكرى الحسنة التي يستحق.
حروب ودفاتر حكم وانقلابات
قبل دخول العراق الحرب العالمية الثانية كانت عواطف شباب السماوة ومفكريها تنقسم بين ثلاثة اتجاهات؛ الأول هو تأييد المعسكر الاشتراكي، والثاني هو تأييد هتلر الزعيم الألماني النازي، والثالث هو الاتجاه الوطني العام إضافة إلى الاتجاه القومي. وعند اندحار الفاشية بدأت الدول العربية تبحث عن استحقاقاتها من الحلفاء الذين لم يعطونا شيئاً يذكر، بل كبلوا الدول العربية بمعاهدات جائرة أدت إلى انتفاضات متعددة وثورات منحت نوعاً من الاستقلال الوطني ولكن على حساب التماسك المجتمعي، إذ كان للديمقراطية المطلوبة وقودها في السماوة وسواها من مدن العراق، وقد اعتقل وقتل المئات من الشيوعيين نتيجة انقلابي البعث عامي 1963-1968م وصولاً إلى حربي الخليج الأولى والثانية.
السماوة .. هيكلية مدينة
هو عنوان الفصل الثاني الذي يستعرض فيه زيد الشهيد عمارة المدينة الطينية وقسميها: السراي والصوب الكبير، وسورها الدائري الذي أزيل عام 1937م.
يوضح هذا الفصل هيكلية الصوب الكبير وأبنيته من دوائر حكومية وأبنية أهلية خدمية. ويتابع المؤلف تفصيلات السوق الكبير المعمارية وتسقيفه وبضائعه، وتخصصات فروعه مثل أسواق الخياطين والنجارين والأحذية وباعة البرسيم وباعة العباءات وعلاوي بيع الطيور والأبقار وسواها.
عكد (الداحرة) وعكد (العرايا)
يقسم المؤلف فصله التوثيقي إلى فقرات منها: الدخول إلى السوق من الجسر الخشبي، وأنواع الأسواق الفرعية، ثم يقف عند عكود الطرف الغربي ومنها عكد الجامع ودربونة آل عاقول، وعكد الداحرة وعكد النجارين، وعكد السبوسة (نسبة لكثرة المجارش وتجار الحبوب)، وعكد السادة وعكد العرايا، وسبب التسمية أن بغدادياً دخل الزقاق فوجد أطفاله عراة بلا ملابس فسأل مندهشاً (ليش هالصلوخ) والتصق السؤال بالعكد. وهناك عكد الداحرة، وسمي بهذا الاسم لاندحار القوات العثمانية في هذا الزقاق بعد تصدي الأهالي لها، وهناك عكد اليهود الذي يروي زيد الشهيد أن سبب التسمية ليس لوجود اليهود، بل لأن نزاعاً حصل بين جانبين في العكد فاتَّهَمَ السيد طفار سكنة الزقاق بأنهم يهود لعدم وقوفهم معه، فصار اسمه عكد اليهود.
عكد المسنسل
وهو عكد آخر اشتهر بهذه التسمية لأن الحاكم العثماني للسماوة في الحرب العالمية الأولى أمر بالقبض على السيد نور ووالده وتكبيلهما بالسلاسل في ذلك الزقاق.
ويؤرخ المؤلف للبيوت العامرة في شوارع القشلة، مشيراً إلى جهد المصور الفوتوغرافي ناصر حسين الجيلاوي في توثيق محلات المدينة وشوارعها وناسها.
محطة قطار السماوة
أُسست عام 1919م وأعيد بناؤها عام 1937م لأنها تشكل العصب الرئيس لتجارة المدينة وحركة الركاب، كما أنها المحطة التي يجري فيها تبديل القطارات، فضلاً عن وجود (الجطلة)، والجطلة هي عربتان للركاب ترتبطان بقطار البضائع والحمولات لنقل المسافرين على الخط المار من السماوة إلى الرميثة ثم الحمزة فالديوانية لتسهيل مراجعة مركز المحافظة ودوائرها والعودة بالمراجعين وفق وقت محدد.
كما يخصص المؤلف فصلاً كاملاً عن تأسيس محافظة السماوة منذ 1-10-1969م وهي مادة توثيقية مهمة للمتابعين الذين يجدون تفاصيل عمارة البيوت ومجالس العائلات وتقاليد المناسبات والأعياد وأماكن التسلية والتصوير والفنادق والمكتبات. ويقف المؤلف عند تاريخ اليهود في المدينة وعائلاتهم ورحيلهم.
الفصول التالية
وهي ثلاثة: في الأنشطة والواجبات المهنية للفرد والجماعة والحركات الرياضية والفنية والصحافة في السماوة ونشاطات الكتّاب والشعراء والأدباء وخطباء المنابر الحسينية ومثقفي الدواوين.
الإماميون ودورهم في تحضّر السماوة
وهو ملحق خاص يتعلق بالأسرة الإمامية ودور رجالها في التحديث والتطوير منذ قدوم رئيسها (السيد مرعي السيد محسن) إلى السماوة بعد أن كان إماما في الجيش العثماني مستقراً وأسرته في المدينة وحائزاً لأملاك فيها، وكان له أولاد وأحفاد كثر منهم السيد (حسن الإمامي) الذي صار رئيساً للبلدية عام 1909م وعمل على التطوير الجزئي فيها، ومنهم (عبد الستار الإمامي) الذي أدخل مولدة كهرباء تعمل بالنفط للمدينة عام 1934م، ومنهم (عباس الإمامي) الذي كان عضواً في لجنة جمع التبرعات لبناء المدرسة المتوسطة بأموال التبرعات التي كان من أعضاء لجنتها الأهلية السادة: عباس الهر، وحمد الغريب، وشنان آل رباط، وشاكر الزعيري.
وينقل المؤلف عن السيد رعد، ابن السيد سعد الإمامي عميد الإماميين اليوم وقاضي محكمة السماوة، أن أسرته نصبت 36 مضخة على نهر الفرات لسقي المزروعات، وأن هذه الأسرة أنشأت معملاً لصناعة الثلج في زمن انعدام الكهرباء وأنها حققت وكالات لبيع النفط على الأهلين في السماوة والحمزة والخضر، كما أوجد عبد الستار الإمامي أعمالاً للنساء في نقل المنتجات الزراعية وسواها، فقال الشاعر:
هل حجالك شايبك دفعل يكول
من شفت نسوان بالكولي تدور
وينقل المؤلف خبراً مفاده أن عباس الإمامي هو أول من فتح تجارة تسويق الحنطة والشعير خارج السماوة فارتفعت الأسعار إلى الدنانير بعد أن كانت الأوزان تقدر بالفلسان الحمر فقال الشاعر وردد الناس:
هل حجالك شايبك كود وفنس
عالشعير الوزنته بس بفلس
واليوم بميت دينار ادغاره
ويتولى المؤلف في الملحق الثاني توثيق دور السماوة في ثورة العشرين وإسنادها لحركة المجاهد السيد محمد سعيد الحبوبي قبل ذلك.
وفي النهاية وضع المؤلف قائمة بأسماء الحكام الإداريين للسماوة من قائممقامين ومحافظين حتى اليوم.
أخيراً
يعد جهد الأستاذ زيد الشهيد التوثيقي هذا من الأعمال المهمة تاريخياً، وفولكلوراً في ثقافة السماوة، وثبتاً يُرجع إليه في كل حين لاستثنائية الجهد المبذول في صياغته ودقة مصادره.