عامر جليل ابراهيم /
ترجع أصول العراقيين الأفارقة الى دول افريقيا،من بلاد الزنج، والصومال واثيوبيا والسودان وكينيا وتنزانيا. وقد جلبوا الى العراق في فترات مختلفة استمرت لغاية بدايات القرن المنصرم، ليستخدموا في المزارع والبيوت واحيانا للقتال في الخلافات التي كانت تجري بين الأمراء والأرستقراطيين في جنوب البلاد ووسطها آنذاك، ولغاية اليوم، ما زال بعض هؤلاء يستخدمون كخدم في بيوت شيوخ العشائر.
من النادر ان نجد حالات المصاهرة بين (الأفرو-عراقيين) وبين البيض، وإذا تمت ستسفر عن مواليد لا تقل نظرة الازدراء تجاههم عن تلك التي تلاحق اسلافهم.
وللـ(الأفرو-عراقيين) قادتهم وسياسيوهم، ويعود اقدم تحرك سياسي لاصحاب البشرة السمراء الى الفترة ما بين القرنين السابع والتاسع، عندما قاموا بثلاث انتفاضات، اكبرها واشهرها ما يعرف بـ”ثورة الزنج”.
واستكمالا لمشروع “مجلة الشبكة” بالتعريف بتنوع المجتمع العراقي كان لها هذا الحوار مع السيد (ميثم محمد جاسم مبارك) مسؤول العلاقات العامة الخارجية والمحلية، في جمعية انصار الحرية الانسانية المدافعة عن حقوق اصحاب البشرة السمراء في العراق.
وتاريخياً تواجدت هذه الفئة في بلاد الرافدين منذ القرن السابع (القرن الاول الهجري)، عندما استقدموا كعبيد بواسطة تجار من اجل العمل في الجيش والخدمة والزراعة.
سكن (الأفرو-عراقيين) البصرة وميسان وذي قار، وتواجدت تجمعات قليلة منهم في بغداد وواسط، تتراوح اعدادهم من 1,5 ـ 2 مليون نسمة وهم يتحدثون اللغة العربية باللهجة العراقية الجنوبية.
جرت المتاجرة باصحاب البشرة السمراء كعبيد منذ القرن السابع الميلادي حتى منتصف القرن التاسع عشر، عن طريق البصرة، التي اكتسبت أهميتها في التجارة كونها تحوز على أهم ميناء بحري في جنوب العراق، وقد انصهر مجتمع العراقيين – الافارقة عادات وتقاليد المجتمع الجنوبي العراقي، وتطبع “العبد الأسود” بصفات مالكيه من تجار وأغنياء وشيوخ عشائر وشخصيات نافذة، حتى أن لغته الأم اختفت من ذاكرته، وانتمى لمعتقدات أصحابه، وحمل نسب العشائر التي امتلكت أسلافه.
عملهم في العراق
-عمل السود في ظروف سيئة وقاسية، كتجفيف الأهوار، وازالة الطبقة الملحية “السباخ” عن التربة، لجعلها صالحة للزراعة، وتعين عليهم أن ينقلوا الملح المزال على ظهور البغال الى الاسواق، ومنهم من استعمل في بساتين النخيل ومزارع قصب السكر.
على الرغم من تجريم العبودية في العراق عام 1924م، في عهد الملك فيصل الاول، إلا ان نظرة الاحتقار بقيت تلاحقهم، فلم يتمكن اطفالهم من دخول المدارس الحكومية حتى العام 1960م، ولم يسبق لعراقي اسود ان تقلد منصبا رفيعا في الحكومة، كما لم يكن لهم ممثلون في مجالس المحافظات او في البرلمان العراقي، فبقوا يشغلون وظائف خدمية في المطاعم والمصانع وغيرها، كما يقول السيد (ميثم محمد جاسم مبارك) .
المصاهرة
من النادر ان نجد حالات الزواج والمصاهرة بين (الأفرو-عراقيين) وبين البيض، فانها، وان تمت، ستسفر عن مواليد يطلق عليهم اسم “المولدين” الذين لا تقل نظرة الازدراء تجاههم حدة عن تلك التي تلاحق اسلافهم، ويذهب بعض العراقيين الى ابعد من ذالك بنعتهم بالعبيد، حتى ان لفظه “عبد” كثيرا ما اقترنت بسواد البشرة في قاموس معظم كبار السن والشيوخ العراقيين.
قادة
وللـ(الأفرو-عراقيين) قادتهم وسياسيوهم وتحركاتهم السياسية ويعود اقدم تحرك سياسي للسود في العراق الى الفترة ما بين القرنين السابع والتاسع، عندما قاموا بثلاث انتفاضات، اكبرها واشهرها ما يعرف بـ”ثورة الزنج” بين عامي 868م و 883م، بقيادة علي بن محمد، اسفرت عن تأسيس حكم ذاتي سياسي، وبروز عاصمتهم (مدينة المختارة)، التي حاصرت المدن في الجنوب، منها البصرة، وحل الدمار والخراب وقتل الآلاف نتيجة هذا التمرد، وقد انهي التمرد نهائيا في سنة 883م ايام الدولة العباسية، التي عادت لتفرض سيطرتها في المنطقة، وكعقاب على تلك الانتفاضات، تم تشتيت وتوزيعهم بين العوائل والعشائر لطمس هويتهم وقتل روح التمرد فيهم من خلال اقناعهم انهم عبيد بالفطرة، وان العبودية قدرهم المحتوم.
وعبر التاريخ الطويل المنسي، لم تقم لهم قائمة، فعقوبة ثورتهم كانت موجعة، أضعفتهم وشتت شملهم، حتى بعد سقوط النظام العراقي السابق في عام 2003م، عندما ظهر “جلال ذياب”، الذي تزعم قيادة المجتمع الأفروـ عراقي، فأسس “جمعية أنصار الحرية الإنسانية” على المستوى المدني الاجتماعي، وتبلورت رؤيته السياسية بين عامي 2005م و2007م لتتأسس ” حركة العراقيين الحرة”، وهي حركة مدنية علمانية خاصة باصحابالبشرة السمراء لتكريس العدالة والمساواة ورفع التمييز العنصري عنهم، والاعتراف بوجودهم وحقوقهم كأقلية وخوض المضمار السياسي.
انتهت هذه النهضة السياسية للعراقيين الافارقة بمجرد اغتيال قائدهم، فقد تم اغتيال جلال ذياب يوم الجمعة المصادف 26/4/2005م في البصرة، وأخمدت بذالك الشعلة العراقية السوداء، التي دعت لمجتمع مدني علماني خالي من العنصرية.
ثقافتهم
ويستمر السيد ميثم محمد جاسم مبارك بحديثه عن العراقيين الافارقة وثقافتهم قائلا: حافظ السود العراقيون على موروثهم الفلكلوري الموسيقي، وبمسمياته الإفريقية الاصلية، مثل معزوفات (بيت، وانكرونكا، وجونباسا، والليوة والنوبان)، وتختلف هذه المعزوفات عن بعضها البعض حسب اختلاف الآلات الموسيقية المستخدمة فيها.
من اشهر هذه الآلات ( امصوندو، وكيكانكا، ووباتو، والصرناي)، ويشارك المغنين في أدائهم راقصون من كلا الجنسين، بعضهم يرتدي احزمة مزينة بأطراف وجلود حيوانات محنطة، والتي تمنح للأغنية نغمة اضافية ناتجة عن ارتطام هذه الأطراف بعضها ببعض أثناء الرقص.
ويطلق على الأماكن المخصصة لأداء الطقوس الاحتفالية الفلكلورية بـ “المكايد”، ومفردها “مكيد”، ومن المكايد التي اشتهرت بالبصرة، مكيد انيكا، ومكيد ابو ناظم، ومكيد سعيد منصور، ومكيد أميك.
وكان اشهر الفنانين ممن ابتدأوا مشوارهم الموسيقي بالمكايد قد انضموا الى فرقة البصرة الشعبية عند تأسيسها في عام 1975م.
وتجدر الاشارة الى ان هذه الفئة قدمت الكثير للجنوب برقصاتها وتراثها الفلكلوري، على الرغم مما كانت تعانيه من فقر وعوز وجهل.
منسيون
يفاجأ الكثيرون حين يسمعون بوجود اقلية ذات بشرة سوداء من اصول افريقية في العراق، وتحديدا في البصرة، وتكون المفاجأة الأكبر، حين يسمعون بالعنصرية والتمييز ضدهم، وعادة ما يصدر رد فعل اولي من قبل هؤلاء، من خلال رؤية نمطية تتكرر وتقول بأن عصر العنصرية ضد ذوي البشرة السوداء انتهى زمنه منذ مجيء الاسلام، ولكن تلك الرؤية النمطية تصطدم بالتقاليد المجتمعية في العراق والتي تكون في الغالب بعيدة جدا عن تعاليم الدين الاسلامي.
فعلى الرغم من عدم وجود عنصرية قانونية في النظام التشريعي العراقي منذ تأسيس الدولة العراقية (1921)، الا ان (الأفرو-عراقيين) محاصرون بأنواع من التمييز والعنصرية في داخل المجتمع، ما يفرض على النظامين التشريعي والتعليمي وكذلك على الاعلام الرسمي العراقي بذل اهتمام خاص، من خلال تشريع قوانين تجرم اي شكل من الاشكال العنصرية او التمييز ضد هؤلاء ومن خلال تثقيف المجتمع في هذا الخصوص.
وكان العراق قد شهد كما البلاد الاخرى في العالم القديم، تجارة الرق على نطاق واسع، فبغداد كانت عاصمة الخلافة العباسية على مدى خمسة قرون، وكانت تجارة الرقيق آنذاك، هي إحدى أبرز نشاطاتها التجارية، وكان العبيد والإماء من مختلف الأعراق يساقون الى العراق ليتم بيعهم في اسواق النخاسة، وتشكل ثورة صاحب الزنج (869-883)، مثالا تاريخيا لانتشار ظاهرة الرق آنذاك وشدة العنصرية والظلم بحقهم، فهي انطلقت من البصرة لتضم نصف مليون عبد وتكتسح بلادا شاسعة وامتدت لتبلغ مكة لكن تم القضاء عليهم أخيرا، فقتل الآلاف وشرد العديد منهم ورجعوا عبيدا مجددا كما كانوا.
حقوق
بعد سقوط نظام صدام في العام 2003م، تصاعد الوعي الجمعي إزاء تحديات الهوية لدى الاقلية السمراء في العراق، فبدأوا يشكلون جمعيات وفعاليات للمطالبة بحقوقهم والمشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية لكنهم اصطدموا بمعوقات كثيرة على مختلف المستويات الاجتماعية والثقافية والسياسية.
وتعتبر منظمة انصار الحرية الانسانية الكيان الرسمي الاول لهم وتدعو لمجتمع مدني علماني يهدف الى تكريس حقوقهم من دون اي بعد عنصري او تمييزي.
وفي كتاب “الاقليات في العراق” الذي قام الباحث سعد سلوم بجمع مادته، محاور رئيسية حول التمييز والعنصرية بحقهم، شملت الميثولوجيا الدينية والسلوك الاجتماعي والمشاركة السياسية.
وقد تناول جلال ذياب في فصل “العراقيون السود” : ندوب الذاكرة والهوية المستردة” عدة نقاط منها:
أولا، كانت النظرة الدونية تجاه السود العراقيين قد تنامت ما قلل من شأنهم الانساني في ظل ثقافة العنصرية ضد أصحاب البشرة السوداء، وذلك على الرغم من محاولة عدد قليل من المفكرين القدامى نقد تلك الظاهرة، وما كتبه الجاحظ (869م)، في مؤلفه “فضل السودان على البيضان” نموذج، وعلى سبيل المثال، تقول الروايات الشعبية المأخوذة من سفر التكوين أن السود يتحدرون من حام وهو ابن نوح الذي استهزأ بأبيه فعاقبه الله بأن جعل نسله عبيدا سود
ثانيا: تتميز العادات والتقاليد الاجتماعية في ما بينهم بشكل صريح فترفض الاغلبية الساحقة الزواج المختلط ما بين اصحاب البشرة السوداء واصحاب البشرة البيضاء، ولغاية الان تستخدم كلمة “عبد” للاشارة اليهم، في حالات الخصام او الاستهزاء او في حال غيابهم حينما يريد احد ان يعرف واحدا منهم ويميزه عن شخص أبيض. وعلى سبيل المثال، أخبرت احدى السوداوات العراقيات كيف انها سئلت عن جواز سفرها من خلال رحلتها الى كردستان داخل الاراضي العراقية، وقد اعتبرتها الشرطة أجنبية وليست عراقية، وروت أيضا كيف يشبهونها استهزاء بالنجم الامريكي الراحل مايكل جاكسون، أو ببلال (مؤذن النبي).
وياتي ذالك كله مضافا الى عدم وجود فضاء اجتماعي متساوٍ في ما خصهم، بهدف تطوير وضعهم الاجتماعي، لذالك فان عدد حاملي الشهادات وأصحاب الوظائف المتوسطة في الجيش أو الشرطة او الدوائر الرسمية من بينهم، قليل جدا ويمكن القول بندرته، حتى في مناطق سكنهم.
طموحات
يضيف مبارك: تطمح الاقلية السمراء في العراق الى تلبية مطالب مشروعة، منها الاعتراف بوجودها وحقوقها قانونيا، والاعتذار الرسمي عن التاريخ الطويل من التمييز والعنصرية ضدهم، وتشريع قوانين واضحة وصريحة تمنع وتجرم اي شكل من اشكال الاضطهاد بحقهم، وتضمين المناهج الدراسية ما يثقف المجتمع ويدعوه الى احترام كل الاعراق والالوان والطوائف، بالاضافة الى افساح المجال امامهم في التمثيل الرسمي في المجالس المحلية والبرلمان وجميع هيئات الحكومة، وايضا تسليط الضوء عليهم اعلاميا واتاحة الفرصة لهم لتقديم وجهات نظرهم في الاعلام الرسمي.
احلام
إن الأوضاع المزرية التي أراد جلال ذياب أن يكافحها من خلال جمعيته ومدرسته المخصصتين للسود، كما أراد أن يكون المواطن الأسود قادرا على ممارسة حياته الطبيعية اجتماعيا وسياسيا من خلال الترشح في الانتخابات، وباغتياله أجهضت أحلام السود العراقيين وتشتتت رابطتهم وانطفأت شعلتهم.
عندما اغتيل جلال ذياب ابان انتخابات المجالس المحلية في العراق، وقبل عملية الاغتيال، كانت الحركة قد رشحت اعضاء منها للانتخابات، لكن عددا منهم انسحب بعد ذلك، وقد اتهمت احزاب منافسة واطراف اقليمية بهذا الاغتيال. فالحركة كانت متأثرة بالحركة المدنية الاميركية المناهضة للعنصرية تجاه السود، وقد احتفلت بفوز الرئيس الأميركي باراك اوباما في الانتخابات الرئاسية الاميركية، كذلك كان ذياب قد علق صور لكل من اوباما ومارتن لوثر كينغ في المراكز والمدارس المرتبطة بالحركة، وقد يكون ذلك كله قد اثار حفيظة جهات سياسية ودينية معادية للحكومة الاميركية، في حين اعلن عدد من الشخصيات السياسية والاجتماعية انزعاجهم من تحركات هذه الحركة حيث وصفوا مطالبها بالمبالغات والمزايدات السياسية.