باسم عبد الحميد حمودي /
صار العالم جزيرة واحدة، هذا صحيح، لكن الفرد في المجتمع المتحضر اليوم صار (جزيرة) وحده، بمعنى أن هذا الجهاز الصغير الذي يحمله معه أينما يكون (يعزله) عن العالم وقتما يشاء، إذ ينصرف اليه ويجلس وحيداً، رغم أنه وسط مجتمعه الصغير (بيته أو مكتبه) أو الكبير (مجتمع العمل أو السوق).
فولكلوريا – والفولكلور نتاج المجتمع العام- لا تنضبط فيه أصناف السلوك المجتمعية التي نتوق إليها مع ما وصل اليه المجتمع المتحضر من سلوكية انفرادية، يتعايش فيها الفرد مع جهازه المحمول الذي يربطه بالعالم السبراني الفضائي، وينقل له العالم بالصورة والصوت لكنه يعزله -بالحدود التي يقررها- عن الآخر.
من هنا فإن أنساقاً اجتماعية جديدة تحارب البنية الفولكلورية الاجتماعية العامة التي كانت والتي نرى ضرورة استمرارها.
القيم الاجتماعية العامة
تندرج القيم المتعارف عليها اجتماعياً ضمن أنساق متعددة، ويكون للاحتشاد الفولكلوري/ الاجتماعي مكانته الدائمة في التلقي والتمثل الاجتماعي والاستجابة التي يكون للحواس الخمس أثرها في استلام الأثير وتمثله ميدانياً وحياتياً.
في دراسة جوزيف كورتيس (التصويري والثيمي) التي ترجمها أدريس سعيد ونشرها في العدد الرابع من مجلة (علامات) المغربية سنة 1995 يحدد الكاتب البعد التصويري، في كل المضامين التي تعود للحواس الخمس، أي كل ما يمكن أدراكه كمعطى مباشر قابل للمعاينة في العالم الخارجي، ويتحدد البعد القيمي هنا كمكون مجرد، مضموناً لا رابط له مع العالم الخارجي. إن ذلك يأتي لأن هذا العالم يتأثر بواسطة إنسانه المتلقي بمنظومة القيم التي كان يطلقها النص المقروء (الرسمي) أو (الجهري) المدون الشعبي-الفولكلوري-
أن تركيز كورتيس على البعد التصويري يجعلنا نأخذ مقولته في الحسبان هنا، ذلك أن لفظ التصويري يطلق على كل مدلول وكل مضمون للسان الطبيعي، وبشكل أوسع على كل نسق تمثيلي (بصري مثلاً) يمتلك معادلاً على مستوى الدال (التعبير) في العالم الطبيعي والواقع المدرك.
المتلقي والمادة الفولكلورية
بناء على ذلك فإن كل ما يعود داخل كون خطابي معين (لفظي أو أيمائي) الى إحدى الحواس الخمس المعروفة: البصر –السمع – الشم – الذوق – اللمس ، نطلق عليه مصطلح (التصويري)، وعلى ذلك فإن المتلقي يستقبل المادة الفولكلورية بواسطة هذه الحواس فضلاً عن التأثير الفكري، ويكون المتلقي رهين منظومة هذه الحواس وقدرتها على التأثير المدرب فكرياً.
أن هذه الحواس، ولا سيما حاستي البصر والسمع ، اللتين هما الوسيلتان المواجهتان للمادة الآتية من خارج الفرد، من المجتمع أو من جهاز المحمول الخاص، هما اللتان تشكلان جزءاً من السلوك العام للفرد أثناء تلقيه منظومة المسرودات الفولكلورية المتعددة، من حكاية ممثلة، أو دراما محكية غنائية.
إن بنية الأداء الحكائي للسيرة الشعبية جهراً بواسطة الراوي -الحكواتي- القصخون تتكون مقوماتها من القول الجهري والحركة وطبقات الصوت ووسائل الإيضاح الأخرى من عصا أو سيف أوعمامة أو طربوش، ومن متممات الجلوس داخل الديوان (المضيف –المقهى – الفناء)، ويكون التلقي مرهوناً بالوقت والمكان المناسبين ورغبة المتلقي مع قدرة الراوي/ المؤدي على التأثير والإدهاش.
إننا هنا نداخل بين المجتمع العام الموجود عياناً، من بيت ودائرة ونادٍ ومقهى، وبين بنية التجديد الرقمية التي يشتغل عليها المحمول الشخصي (جهاز اللابتوب الفردي الخاص)، دون أن ننسى دور الشاشة الصغيرة والكبيرة في نقل الأحداث الدرامية السابقة من حكايات وأحداث تقدم عبر الشاشتين.
جزيرة المحمول والقيم السالفة
إن التقاطات الحواس الخمس أو بعضها للخطاب الجهري الذي يقدمه الراوي (والراوي هنا مادة غنائية أو درامية أو واقع اجتماعي يتعايش فيه الفرد مع المجتمع) وهو يرتبط أيضاً بمنظومة القيم الاجتماعية التي يتمتع بها الفرد وسط جماعته، أو انصرافاً عنها مع محموله الذي يشكل معه جزيرة فردية يتصل بواسطتها بالجزر الاجتماعية الأخرى.
ذلك يعني أن منظومة القيم القديمة، التاريخية، السردية، الفولكلورية هنا تشكل ظاهرة قيمية تصويرية فولكلورية، ولكنها كذلك تشكل عطاء تصويرياً لقيم زمن سالف ومناقبه وسط زمن يتجدد، ضمن خبرات جديدة تأخذ من المادة الفولكلورية ما تقرره وتحتاجه، لبناء عالم جديد يتعايش فيه الفولكلور مع العالمين: الواقعي والافتراضي.