جمعة الحلفي/
الحوار مع قائد عسكري خارج للتو من أتون الحرب والنار، وغبار المعارك ما يزال عالقاً بثيابه، له طعم خاص ومعنى آخر، فأنت تحاور الآن من كان، قبل بضع ساعات، يحاور الرصاص والبارود ويقتفي آثار القتلة من بيت إلى بيت ومن نفق إلى نفق حاملاً دمه على كفيه.
الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي لم يكن مجرد قائد عسكري في ساحة المعركة بل كان أيضاً قائداً اجتماعياً وإنسانياً يقود المعارك في الصفوف الأمامية وسط جنوده ويبني علاقات محبة مع الناس في الوقت نفسه ويحنو حتى على أولئك الأعداء الذين يسلمون أنفسهم ويتركون أسلحتهم.
عبد الوهاب الساعدي كتبت عنه أكبر صحف العالم مشيدة بشجاعته وقيادته الفذة للمعارك ضد داعش، وكنا نتردد في إجراء حوار معه أو الكتابة عنه، خشية أن يقال لنا لماذا الساعدي وليس سواه من القادة. اليوم انتهت المعركة مع داعش فزال التحفظ وأصبح اللقاء مع أي قائد عسكري سبقاً صحفياً لمعرفة ظروف المعارك ودور هؤلاء القادة فيها.
هنا حوار صريح مع الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي خص به مجلة “الشبكة العراقية”:
أبو إبراهيم
أبو إبراهيم..هكذا كنت أناديه تحبباً بشخصيته وتماشياً مع تواضعه.. وكانت تسره هذه الميانة.. مسّيت عليه وسألته عن الصحة والمعنويات بعد الانتصار النهائي على أوباش داعش الإرهابي وطرده من العراق بعزيمة قواتنا المسلحة بكل صنوفها وتشكيلاتها، وقلت له: أبا إبراهيم سبق أن وعدتنا بحوار لمجلة “الشبكة العراقية” وقد حان وقته هل أنت مستعد؟ قال: أهلا وسهلاً بك أستاذ جمعة وبمجلة الشبكة وأنا جاهز تفضل، فكان سؤالنا الأول:
المعركة مع داعش تختلف عن جميع المعارك
* ثلاث سنوات من المعارك الطاحنة خضتموها مع أعتى تنظيم إرهابي، في -الأنبار والفلوجة وصلاح الدين ونينوى، حتى حطمتم أسطوره داعش ومرّغتم أنوف الإرهابيين بالطين والدم والعار، كيف يمكن أن تقيّم تلك المعارك؟
-القائد الساعدي: المعركة مع داعش كانت تختلف عن كل المعارك العسكرية، فلا هي معركة تقليدية بين جيشين نظاميين ولا هي معارك قتال خاص مع عصابات ولا هي معارك مدن فقط، إنها كل هذه المعارك معاً وكل معركة من هذه المعارك تختلف عن الأخرى وكل معركة لها ظروفها الخاصة، فعلى سبيل المثال كانت معركة الفلوجة من طراز خاص متفردة وشرسة وهي تختلف عن كل المعارك، ومعارك الرمادي الأخرى تختلف عن معارك نينوى وغيرها في الطبيعة الجغرافية وفي البيئة وفي قوة العدو ومايمتلك من أسلحة وخطط عسكرية وعناصر مدربة، هكذا كانت المعارك مع داعش.
أشرس المعارك
* ما أشرس المعارك، أو لنقل أكثرها شراسة، التي خضتموها في هذه المدن؟
– القائد الساعدي: من بين المعارك الشرسة التي خضناها كانت معركة الملعب في الأنبار وكذلك معارك الفلوجة في أيامها الأولى، خاصة في المناطق القريبة من حي الشهداء وجسر التفاحة، ثم معارك مصفى بيجي، أما في الموصل فقد كانت تلك التي دارت مع داعش عند العبور من نهر الخوصر ثم معركة العبور الثاني الى الساحل الأيمن وأخيراً كانت معركة المدينة القديمة وهي من أعقد وأخطر المعارك وأشرسها.
*هل مررتم بمواقف حرجة في هذه المعارك وأين؟
– القائد الساعدي: بصراحة أستطيع القول إننا لم نواجه مواقف حرجة أو محرجة لكن صادفتنا صعوبات نعم، والكثير من الصعوبات كنا نتجاوزها في وقت قياسي ولا نتركها تؤثر على سير معاركنا.
محاولات اغتيال شبه يومية
*تعرضت للعديد من محاولات الاغتيال والقتل من قبل داعش..هل تتذكر عدد هذه المحاولات؟
– القائد الساعدي: حتى أكون صادقاً معك، لو قلت لك مئة محاولة فالرقم قليل، فقد كانت هذه المحاولات شبه يومية، مرة من قناص ومرة سيارة ملغمة وأخرى من انتحاري، أو في خلال المعارك، فأنا كنت اتواجد دائماً بين صفوف جنودي نتقدم ونشتبك ونقاتل معاً ثم نعود ونتناول طعامنا معاً أيضاً.
*في اتصال هاتفي مع حضرتك قبل أشهر وكنت أريد الاطمئنان عليك بعد أخبار عن تعرضك لمحالة اغتيال حدثتني عن أنك نجوت بقدرة قادر من سيارة مفخخة كانت متوجهة نحوكم وسميتها معجزة؟
معجزة القدر
– القائد الساعدي: نعم تلك كانت أعجوبة أو معجزة، فقد كنا في منطقة قتال غير مستوية فيها تلال ومرتفعات وهضاب وفوجئنا بسيارة مدرعة تخرج علينا من بين تلك التلال وهي تسير بسرعة فائقة نحونا ولم يكن بوسعنا فعل أي شيء لأننا لم نرها إلا وهي لا تبعد عنا سوى بضع عشرات من الأمتار، لكن القدر أو الحظ أو مشيئة رب العالمين سبحانه كانت معنا.. كنا نتفرج على السيارة ونحن في دهشة وحيرة من أمرنا، وإذا بها تنفجر لحالها على بعد خمسين متراً ولم يصب أحد منا… كانت معجزة حقاً.
* والسيارة الثانية في الفلوجة التي حدثتني عنها أيضاً؟
– نعم، تلك ربما كانت معجزة أخرى لكنها كشفت لنا عن هشاشة وخوف بعض أولئك الذين يورطهم داعش في مثل هذه العمليات الانتحارية، فقد فوجئنا حينها أيضاً باقتراب سيارة ملغمة منا وكنا في بناء مهدم لا يوفر الحماية من أي خطر فكيف بسيارة مدرعة وملغمة.. المهم على بعد عشرات الأمتار فقط وإذا بالسيارة تتوقف فجأة وينزل منها الانتحاري يتركها ويولي هارباً، فلحق به أحد جنودنا وقتله، ثم فجرنا السيارة تحت السيطرة، حتى أني عنفت الجندي على قتله الانتحاري الذي هرب بعد أن اوقف السيارة، لأنه انقذنا من موت محقق.
نعم داعش انتهى كتنظيم
*هل يمكننا القول الآن بثقة أن داعش انتهى في العراق ولم يعد له أي وجود يهدد الأرض العراقية؟
القائد الساعدي: نعم، كتنظيم انتهى فقد خسر وفقد سلسلة قياداته العسكرية والتنظيمية، وخسر بناه التحتية وأكبر قدراته وإمكاناته الحربية، وقبل ذلك فقد الروح المعنوية لعناصره بعد الانهيارات التي شهدتموها في معظم المعارك وخاصة الأخيرة، لكن كعناصر لايزال البعض منهم موجوداً ومتخفياً.
*أين تخفى هؤلاء؟ هل فروا إلى الدول المجاورة مثلاً؟
– القائد الساعدي: بعضهم محتجز الآن لدى أجهزتنا الأمنية وبعضهم فرّ عبر الحدود مع سوريا أو إلى الصحراء، والبعض الآخر يمكن أن يكون مختفياً في منازل ومواقع مهدمة أو مختلط مع العوائل ولكن قواتنا تطارد هؤلاء كل يوم.
محبة الناس كانت هدفنا
* أنت حظيت بمحبة الناس، خاصة في الموصل، وكان الشيوخ والنساء وحتى الأطفال يبحثون عنك ليعانقوك ويشكروك في تعبير عن العرفان بالجميل..كيف تمكنت من بناء هذه العلاقة مع الناس؟
– القائد الساعدي: في المعركة مع داعش كان واحداً من أهدافنا هو تخليص المواطن من براثن الإرهابيين وإعادة الاعتبار والثقة للعلاقة بين المواطن والعسكري العراقي، فــأنت تعرف، قبل سنوات، كانت هذه العلاقة غير طبيعية وكان العسكري العراقي يخشى التحرك خارج وحدته أو موقعه بضعة أمتار، اليوم يمكنك أن تشاهد الجندي وهو في المقهى أو المطعم يجلس وسط الناس. الآن يمكن القول لقد تعززت الثقة لدى المواطن بأن الجندي موجود لحمايته وليس لتهديده.
* الانتصار النهائي على داعش وطرده من العراق أثلج صدور العراقيين جميعاً لكن هناك البعض ممن يريد الاصطياد في المياه الآسنة، بالتقليل من أهمية المعركة أو القادة.. نريد أن نسمع منك تقييماً لدور القائد العام الدكتور حيدر العبادي؟
كلمة للأمانة والتاريخ
– القائد الساعدي: والله، وهذه كلمة للأمانة والتاريخ، كان للقائد العام للقوات المسلحة دور بارز وممتاز وحازم، وكان على اطلاع بجميع التفاصيل، كان العبادي يريد الحضور أحياناً في أخطر مواقع القتال وكنت أنا نفسي اعترض على ذلك، وأطلب منه عدم الذهاب إلى هناك، لكنه كان يرفض ويقول لي: أبو إبراهيم أنا لست أفضل منكم بل أنا واحد منكم.
كانت الهمر مقر قيادتي
* أبو إبراهيم لدي سؤال أخير أرجو أن لايكون محرجاً وأنت بوسعك طبعاً أن لاتجيب عنه.. سمعنا مرات أنك شعرت بأن هناك سياقات لم تكن مرضية لك، وبأنك حرمت من المشاركة بمعارك كنت تريد المشاركة فيها بل وقيادتها.. ما صحة ذلك؟
-القائد الساعدي: طبعاً المعروف أن في السياقات العسكرية يمكن أن يقود القائد قواته من مقره وعبر ضباط الأركان والحركة والجنود والاتصالات الهاتفية، ولكل قائد وجهة نظره في هذا الشأن، وكانت وجهة نظري أنا أن أتواجد في الخطوط الأمامية ولذلك لم يكن لدي مقر انما كانت سيارة الهمر هي مقري لقيادة المعارك، وكان وجودي مع جنودي في المعارك هو القاعدة. وتعذرني عن المزيد من الكلام.
هنا ختمنا الحوار: ممنون أبو إبراهيم كفيت ووفيت وبالسلامة يابطل.