#خليك_بالبيت
ترجمة: آلاء فائق – جيسيكا جونز عن موقع BBC /
نشأت القيلولة أو ما يعرف بــSiesta باللغة الإسبانية في إسبانيا، وازدادت شعبيتها في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك اليونان وإيطاليا والفلبين، حيث كان أغلب العمال الإسبان يميلون لأخذ قيلولة قصيرة من العمل كوسيلة للاستراحة بعد الظهر، ولاسيما عندما تكون الشمس ساطعة على سمت الرأس ودرجة الحرارة في أشدها.
ونقيضاً للصورة النمطية التي انغرست في أذهان الناس عن العمال الإسبان بأنهم يحبون الراحة والاسترخاء، إلا أنهم في واقع الحال يعملون ساعات أطول مقارنة بنظرائهم في عموم الدول الأوروبية. وقد أثارت الدراسات الصحية الصادرة مؤخراً مخاوف من مغبة تخلي بعض الناس عن القيلولة وما له من مخاطر على صحة الفرد عموماً.
قيلولة بموجب القانون
القيلولة عادة يومية لا غنى عنها لدى سكان بلدة (أدور) الصغيرة، القريبة من مدينة فالنسيا الإسبانية، لا بل إنها من الأمور المقدسة لديهم وازدات قدسيتها تحديداً في عام 2015 حينما كفل عمدة البلدة للمواطنين الحق في الحصول على وقت قيلولة بموجب القانون.
وبموجب ذلك تم إغلاق كافة المرافق في هذه البلدة الصغيرة من الساعة الثانية ظهراً وحتى الخامسة عصراً، مع السيطرة على جميع حالات الضوضاء لأدنى حد ممكن، وتشجيع الآباء على إبقاء أطفالهم داخل المنازل، وجعل ألعاب الكرة خارج جدول الأعمال تماماً، لينعم سكان هذه البلدة الصغيرة بغفوة هادئة وهائنة.
وبينما تحتضن بلدة أدور تقليد القيلولة هذا على مدى سنوات، لا يلاقي هذا التقليد الذي هو من أكثر الصور النمطية الدائمة للبلاد إقبالاً كبيراً في أماكن أخرى داخل إسبانيا. فعادة القيلولة هذه باتت غريبة الآن على معظم الإسبان كما هي كذلك بالنسبة للأجانب الذين غرسوها في مخيلتهم عن إسبانيا.
الأصول غير المتوقعة للقيلولة
قبل التوغل في موضوع القيلولة، يجدر التوقف قليلاً للنظر في أنها لم تأتِ إطلاقاً من إسبانيا، بل تنحدر أصولها من إيطاليا.
يوضح نائب رئيس الجمعية الإسبانية للنوم واختصاصي طب النوم خوان خوسيه أورتيغا: أن كلمة siesta التي تعني القيلولة تأتي أصلاً من الكلمة اللاتينية Sexta التي تعنى الرقم ستة، إذ كان الرومان يتوقفون عن الطعام ويأخذون قسطاً من الراحة في الساعة السادسة التي تُحتسب من أول النهار. ولو وضعنا بالاعتبار تقسيم الرومان لفترات النهار إلى 12 ساعة، فإن الساعة السادسة تقابل في إسبانيا الفترة ما بين الساعة الواحدة ظهراً (شتاءً) والثالثة عصراً (صيفاً).
رغم ارتباط عادة القيلولة بالمجتمع الإسباني، فإن نحو 60 بالمئة من الإسبان لا يقيلون، وتشير المسوحات إلى أن عدد ساعات العمل في إسبانيا سنوياً تفوق عددها في بريطانيا وألمانيا.
انطلاقاً من أصولها الرومانية، أصبحت القيلولة ظاهرة عابرة للثقافات، إلا أن ساعات العمل غير المعتادة ذات الجذور التاريخية في إسبانيا، هي التي أتاحت الفرصة للإسبان للاستفادة أكثر من أي شعب آخر من القيلولة التي ارتبطت بالثقافة الإسبانية.
وفي حين ما يزال الناس في بعض المهن يجدون وقتاً كافياً لأخذ غفوة قصيرة، فإن مهن المدينة الحديثة في إسبانيا جعلت كثيراً من العمال الإسبان يتخلون عن قيلولة الظهيرة.
استراحة الظهيرة لمن يعمل في وظيفتين
تقليدياً، قُسم يوم العمل الإسباني إلى جزءين متميزين: يعمل الناس من الساعة 9 صباحاً حتى الساعة الثانية ظهراً، ويتوقفون في استراحة مدتها ساعتان لتناول وجبة غداء، ثم يستأنفون عملهم من الساعة 4 عصراً حتى الساعة 8 مساءً. والسبب وراء هذا “اليوم المجزّأ” هو أنه في حقبة ما بعد الحرب الأهلية في إسبانيا، عمل كثير من الأشخاص بوظيفتين لإعالة أسرهم، واحدة في الصباح والأخرى في وقت متأخر بعد الظهر، مع إتاحة استراحة مدتها ساعتان للعمال، ولاسيما أولئك الذين يعيشون في المناطق الريفية، وهو وقت مخصص للراحة أو السفر بعد انتهاء الوظيفة الأولى.
شهدت إسبانيا بين أوائل الخمسينيات وأوائل الثمانينيات هجرة غير مسبوقة من المناطق الريفية إلى مدنها، حيث يعمل غالبية مواطنيها الآن. اليوم، ينعم قلّة من الإسبان بقيلولة الظهيرة، ولكن يبدو أن يوم العمل الطويل قد ظل متأصلاً في الثقافة الإسبانية.
فخ البقاء في أماكن العمل لساعات طوال
من الواضح أن ساعات العمل الطوال في إسبانيا لا تساوي المزيد من الإنتاجية، ويعاني كثير من الشركات الإسبانية من بقاء موظفيها في أماكن العمل ساعات طوال بلا ضرورة .
يقول مارك غراو، باحث في كلية هارفارد كينيدي وخبير في التوازن بين العمل والحياة الأسرية: تعني كلمة ” presentismo”بالإسبانية البقاء في مكان العمل ساعات طوال أكثر مما هو مطلوب، فقط لكي يبدو الموظف أمام مؤسسته أكثر جدية والتزاماً وحرصاً.
وانتشرت هذه الظاهرة في إسبانيا نظراً لاعتقاد الشركات التقليدية السائد بأن زيادة ساعات العمل تقابلها زيادة في الإنتاج، ما حدا بشركات كثيرة أن تزيد فترة راحة موظفيها لتمتد ساعتين منتصف النهار.
ويتابع غراو: قد تبدو هذه الظاهرة مفيدة على المدى القصير، لكنها في الحقيقة قد تنتشر بسرعة هائلة على المدى الطويل، وذلك سيؤثر على الحماس في العمل، والأداء الوظيفي، والرضا عن العمل، والرضا عن الحياة، وستؤثر حتماً على الحياة الأسرية للموظف عموماً.
وفد دفع الخوف المترسخ من فقدان الوظائف بكثير من الموظفين الإسبان إلى تمضية المزيد من الوقت في مكاتبهم.
يقول غراو: الخوف من فقدان العامل الإسباني وظيفته جعله أكثر تشككاً في استخدام سياسات العمل المرنة. ربما يكون الخوف أقوى في إسبانيا من الدول الأخرى بسبب التأثير الشديد للأزمة الاقتصادية على البلاد، فضلاً عن ميل عمالها التاريخي نحو البقاء وقتاً أطول في مكان العمل.
السعي للموازنة بين العمل والأسرة
وتوافقه الرأي سوزانا غارسيا، عالمة بيئية بشركة “ACEFAT” في برشلونة لإدراة مشروعات البنية التحتية، تعد مؤسستها واحدة من الشركات الإسبانية التي تحث الموظفين بنحو متزايد على تبنّي أنظمة أكثر مرونة للعمل، وتبذل جهوداً بالتنسيق مع الموظفين من أجل التخلي عن ثقافة البقاء بالعمل لساعات طوال.
ووفقا لدراسة أجرتها شركة “سيدج” لبرامج الإدارة، فإن 80 بالمئة من الشركات الصغيرة والمتوسطة في إسبانيا تؤيد اتخاذ التدابير اللازمة من أجل تحقيق توازن بين الحياة العملية والأسرية.
الإسبان يسهرون حتى أوقات متأخرة
يعتقد الخبراء أن القيلولة التقليدية قد تحظى بنصيب لها في عالم العمل اليوم، ولاسيما حين يكون كثير منا على ما يبدو محرومين بالفعل من النوم.
أظهر استطلاع حديث أجراه مركز فليكس لأبحاث النوم في إسبانيا أن متوسط ساعات النوم التي يحصل عليها الأفراد في إسبانيا هو 7.1 ساعة في الليلة الواحدة، وفي حين أن هذا العدد من الساعات يفوق عدد ساعات النوم في بلدان أخرى كالولايات المتحدة الأمريكية، التي يحصل فيها الناس في المتوسط على 6.8 ساعة من النوم ليلاً، فإنه ما يزال أقل بساعة تقريباً من الساعات الثماني التي يوصى بها الخبراء للنوم كل ليلة. لكنه يقترب من معدل ساعات النوم في دول متقدمة أخرى كالمملكة المتحدة، التي ينام فيها 70 بالمئة من الناس سبع ساعات أو أقل.
كما يسهر الإسبان أيضاً حتى أوقات متأخرة من الليل مقارنة بنظرائهم في البلدان الأوروبية، ووفقاً لمكتب Eurostat للإحصاءات الأوروبية، لا ينام الإسبان في المتوسط قبل منتصف الليل، في حين يخلد الألمان للنوم عند الساعة العاشرة مساءً، والفرنسيون في العاشرة والنصف مساءً والإيطاليون في الساعة 11 مساءً.
القيلولة في القرن الحادي والعشرين
بداية عام 2017، جُهزت محطة قطار أتوتشا في العاصمة الإسبانية مدريد بوحدات معدّة للنوم والاستلقاء لإتاحة الفرصة للعاملين في الشركات كثيفة العمل لأخذ غفوة قصيرة أثناء فترة الراحة في منتصف النهار. بادر موقع “Hotels.com ” إلى اطلاق تجربة تحت شعار “من أجل الحفاظ على القيلولة في الثقافة الإسبانية”. ولاقت التجربة إقبالاً بين سكان مدريد، الذين كانوا يغتنمون الفرصة لأخذ قسط من الراحة أثناء يوم عمل شاق.
يقول سانتي بيريز أولانو، مدير التسويق بموقع “”Hotels.com : ترعرعت في إسبانيا على أن القيلولة جزء مهم من ثقافتنا. وأثبت عدد لا يحصى من الدراسات أن قيلولة منتصف النهار، التي تتراوح ما بين 20 و30 دقيقة، قد تسهم في تقليل الإرهاق وزيادة التركيز.
ويضيف: “لكن إذا أردنا أن تسهم القيلولة بزيادة إنتاجيتنا، فربما يجب أن نوظفها بطريقة تواكب حياتنا العصرية”.
ويستفيد بعض الناس بالفعل من مزايا القيلولة في الحياة العصرية باستخدام التكنولوجيا الحديثة. ويعد تطبيق “ٍSiestApp”، الذي دشنه مطورون إسبان عام 2014، واحداً من جملة تطبيقات ترمي إلى تحسين الاستفادة من مزايا النوم من قياس أنماط نوم المستخدمين، ثم إيقاظهم عندما يتوقع التطبيق أنهم قد استعادوا كامل نشاطهم وطاقتهم.
يقول أورتيغا: “القيلولة لا تتعارض مع نمط الحياة العملية في أيامنا هذه، حتى لو نام الموظف في مكان عمله، فإذا كان الموظفون يستطيعون احتساء القهوة أو تدخين السجائر في وقت الراحة، فلم لا يتمتعون بقيلولة كذلك؟”