مقداد عبد الرضا /
في فيلم “المربع” للمخرج روبرت أوستلاند، هناك عبارة كتبت عند ساحة نصف مضاءة يكون فيها السلوك الإنساني إجبارياً, هو شعار إجباري (المربع هو ملاذ آمن, تسود فيه الألفة, المسؤولية, نتقاسم داخل حدوده كل الواجبات البشرية والإنسانية). كرستيان مدير المتحف ينام فوق أريكة، توقظه الموظفة من أجل موعد حول إجراء لقاء مع إحدى الصحافيات تدعى آن. كرستيان، كما هو واضح تبدو على ملامحه الطيبة والبراءة.
في الحوار الذي يدور مع الصحافية, تبذل جهداً مضنياً من أجل فك شفرات الحديث الذي يتلوه عليها كرستيان, إنه فقط يحاول أن يشرح لها الفرق الشاسع بين فن التأمل وفن السرعة.
* ماهي التحديات الكبيرة التي تعيق إدامة المتحف؟
– لا أود الإجابة بهذه الطريقة, لكني مجبر عليها, أظن أنها المادة, الفلوس, السعي المضني خلف التمويل الذي يكفي لإدامة هذا الصرح الجميل وأعني المتحف, نحن بأشد الحاجة لنوضح ماذا يعني فن هذه الأيام والمقارنة مع فن المستقبل, وهذا في الحقيقة مكلف جداً والمنافسة خطيرة وقاسية.
يا له من عالم غريب
إن محاولة إقناع رؤوس الأموال بالتبرع تبدو مضنية جداً خاصة إذا ماعلمنا أن الكثير ما عادوا يهتمون لمثل هذه الأمور, لكن لا بدّ من المحاولة في إدامة هذا المتحف هنا في السويد وفي العاصمة ستوكهولم بالذات. آن تحاول أن تقرأ له شيئاً صعُب عليها وجدته في موقع المتحف, يوضح كرستيان الأمر, هذا التوضيح ينتهي بإعجاب آن بكرستيان وسريرها في شقتها، وفي واحد من أجمل المشاهد يضع فيه كرستيان الواقي (Condom) حينما ينتهي اللقاء الذي بدا وكانه لعبة ميكانيكية تطلب آن من كرستيان الاحتفاظ بالـ (Condom ) ومايحتويه.
آن: أود أن أحتفظ به
كرستيان: ماذا؟
آن: أريد أن أحتفظ به
كرستيان: سأتخلص منه
آن: اعطني إياه
كرستيان: لا سأقذف به بعيداً
آن تذهب وتجلب الحاوية وتطلب من كرستيان أن يرميه, يتحول اللقاء الحميم إلى مشادة, كل يريد الاحتفاظ به, هو يقول إنه يعود لي وهي تقول إنه طفلي. أيّ عالم غريب؟ أخيراً وبين شد وجذب ينفلت من يد كرستيان لتضعه آن في الحاوية. يقول مخرج الفيلم روبرت أوسلاند: “كل أفلامي تتعلق بالأشخاص الذين يفزعهم عالمنا المعاصر هذا.”
حيرة
إننا عموماً نرفع أيدينا احتجاجاً على اللامبالاة, اللاإنسانية التي نقابل بها كل صباح, كل يوم. هذا العالم المضطرب, نفاجأ بالدهس من قبله, هنا تبدأ الحيرة الإنسانية المصحوبة بالدهشة. لنفترض أن كرستيان، المولود في اليوم الفلاني في تاريخ كذا, من طلب منه المجيء إلى هذا العالم وماهي إمكانية الآخر إزاءه؟ الآخر الذي يشكل دون جدل وحدة عضوية معه ضد الطبيعة من أجل الإنسان, ولكن لم هذا الإصرار على الطبيعة كعدو؟ إن الإنسان هو الآخر يمكن أن يصبح عدواً, ومن هنا تبدأ القطيعة, الحيرة والشك والعذاب.
براءة الجذور
كيف يمكن للإنسان ان يصبح عدواً؟ كرستيان في الساحة, الساحة مكتظة, صراخ من فتاة تطلب النجدة, كرستيان البريء يتدخل من أجل إنقاذها, كرستيان يكتشف بعد حين بأن محفظته وهاتفه الجوال وأزرار قميصه قد سرقت, هنا تبدأ الحيرة المصحوبة بالدهشة: لماذا؟ هل هي الحاجة؟ أم أن الإنسان في داخله شرور؟ تبدأ الحيرة وتبدأ رحلة البحث عن السرقة, كرستيان وعلى الرغم من شعوره بالإحباط، يستمر في مشروعه, يلقي محاضرة على مجموعة من المستثمرين ويشرح لهم مشروع المحتف الجمالي, لكنه في الجانب الآخر يخطط لاستعادة ماسرق منه, إنه هنا وبمعاونة من صديق له في العمل يدبج رسالة (نحن نعرف من أنت وأين تعيش, أعد لي محفظتي وهاتفي الجوال وأزرار القميص التي كانت ذات يوم تعود لجدي). بعد فترة تعود الأشياء التي سرقت, لكن كرستيان سيواجه مشكلة أخرى, إنه ذلك الصبي الذي يشعر بالخجل والعار لأن أبويه يتهمانه بسرقة الحاجات التي تعود لكرستيان, يحاول كرستيان التخلص بشكل ودي من الفتى لكن دون جدوى, يتأزم الموقف, يذهب لشقته للسؤال عن أبويه, لكنه يفاجأ بكلام ساكن الشقة الجديد بأن العائلة كلها اختفت, ربما لشعورهم بالعار من اسم سرقة, وفي مشهد أثير ورائع ويشكف لنا مدى سعي الإنسان البريء, إنسان دارون، إلى كشف مدى القذارة التي يعيشها أولئك البرجوازيون المتخمون على حساب براءة الجذر ونزاهته, الاختلاف الشاسع بين الإنسان العفوي المطرود وبين هذه الطبقة التي تتحكم به, يدخل إلى الحفل عاري الصدر وبكل براءة يحاول أن يقول لنا: هوذا الفرق بيينا نحن الأبرياء وبين هذه المجموعة التي بين يديها الجمال الذي يؤول إلى التدهور والسقوط.
رسالة في قارورة
إن فليم اوستلان (المربع) يضع إصبعه على شكل الفن المعاصر, إنه فن يخلو من التأمل, فن اقتلاع نصب الفارس الكلاسيكي وإقامة مربع بدلاً عنه, فيلم يحتج بشدة على فن الـ ( copy , pest ) هذه الأيام, إننا أمام رسالة قد لا تجد من يصغي, رسالة قد يجدها يوماً شخص في قارورة, شخص له القدرة على تغيير موازين هذا العالم الساحق والمنسحق في آن. الفيلم يحتوي أيضاً على رسائل رائعة في الجمال لا مجال لذكرها لضيق المقال. حصل الفيلم على جائزة “كان” الكبرى للعام الماضي, فاز بالكولدن كلوب ورشح لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي لهذا العام 2018 لكن فيلم “امرأة رائعة” من تشيلي هو الذي خطف الفوز.