مقداد عبد الرضا /
كانت السينما في ما مضى تلعب دوراً مهماً في حياتنا العامة قد نفتقده الآن نظراً للتقدم الذي أحرزته وسائل الاتصال والمنصات في العالم، فلم نعد نستفيق صباحاً لنعلن عن الجديد من الأفلام, لقد حل الركود عند المتلقي والإنتاج السينمائي بفضل التنافس المحموم بين شركات لاهمَّ لديها سوى الربح على حساب الذوق, لكننا نجد أحياناً هنا وهناك بعض الأفلام التي تدفع بنا إلى الأسئلة، وما نفع الحياة دون أسئلة, هكذا يبدو العالم الآن .
الذين سبق لهم أن شاهدوا الفيلم البرازيلي (مدينة الرب) للمخرج فرناندو مريليس، حتماً ستحصل لديهم مقارنة ومقاربة بين هذا الفلم وفيلم (المليونير المتشرد)، إذ اللعبة تكاد تكون متشابهة في تفاصيلها، أطفال مهمشون يحولهم الفقر إلى قساة ومحبين. برع مريليس في (مدينة الرب) فكان أن حصل على جوائز عالمية عدة توجها بالجائزة الكبرى لمهرجان كان 2003، وبرع داني بويل في (المليونير المتشرد)، فكانت له (الكولدن كلوب) ليندفع باتجاه الأوسكار ويفوز بثماني جوائز. لغة البصر التي اعتمدها بويل منذ فيلمه الأول (قبر مسطح) أثبتت جدارة صورية أخاذة ورائعة، فقدم فيلمه الثاني الرائع (ترانسبوتنك).
لكن هوليوود سرقته فضاعت خطواته، إذ قدم أفلاماً لا تذكر إلى الحد الذي يكاد يكون فيه قد غاب عن الأضواء لكنه، بجهد ومثابرة، عاد إلى الضوء وبزغ مرة أخرى بتألق في (المليونير المتشرد). مدينة كل ما فيها يوحي بالفقر والجوع والتشرد، وسط هذا الكم الهائل من التعاسة تنشأ قصة حب معافاة بين شاب يصادف أن يشارك في برنامج (من سيربح المليون)، النسخة الهندية، لنغوص في حقول تتشابك فيها الأحداث التي تدور على خلفية أحد الأحياء الفقيرة في الهند. الشاب المسلم وغير المتعلم (جمال)، المتدفق حيوية ونشاطاً، يتحول من مُعدم إلى مليونير حينما تقدم للاشتراك في برنامج (من سيربح المليون)، كان جمال وأخوه قد تركا دون مأوى بعد أعمال الشغب بين المسلمين والهندوس التي أدت إلى مقتل الأم وتشردهما.
يقطع جمال رحلة عذاب مضنية تنتهي بأن يشارك في البرنامج (who wants to be a millionaire)، الفقراء سادة الحلم وسادة الرغبات, صنواً يكون الفقر معهم ومع أحلامهم، لذلك نجد الصراع أزلياً بين دحر الفقر أو العيش تحت وطأته. اعتمد المخرج على طريقة الفلاش باك لتجسيد الأحداث بحِرفية عالية على الرغم من ضعف هذه الطريقة في الكثير من الأفلام، ولاسيما أن السينما صارت تعتمد على الفعل المتوازي. لكن بويل استطاع أن يوظف الفلاش باك بطريقة ذكية جداً وبانسيابية عالية وخطوط لا يمكن للعين أن تخطئ براعتها.
(جمال مالك)، الفتى الوسيم الفقير في الوقت نفسه، قتلت أمه في احتقان طائفي، يصل إلى البرنامج، وهاهو الآن يخضع لأسئلة توتر قلبه الرقيق، ونتوتر معه ليصل في النهاية إلى السؤال الأخير الذي سيجعله مليونيراً. في الجانب الآخر ذلك الصديق الذي حوله الفقر إلى مستخدم للقتل، أجساد تباع وتشترى، يصل الصراع ذروته حينما تباع (لاتيكا) حبيبة جمال إلى مليونير يعمل عنده ذلك الصديق المستخدم للقتل. ماذا نفعل حينما تستباح الأجساد وتكون سلعة للمساومة, البيع والشراء؟ هل يتعانق الفقر مع المحبة كي يندحر الفقر ولو إلى حين، أم يقف مكتوف الأيدي لاحول له ولا قوة؟ الفقر ذلك الأفّاق الذي يدفع إلى الموبقات أحياناً إن لم يكن العقل مسلحاً بالمعرفة. تستفيق الصداقة لتنتهي الأحداث بتألق المحبة حتى لو على حساب الدم الذي نث من جسد الصديق.
في لغة الإخراج استطاع بويل أن يتفوق حتى على تلك الخطوط التي وضعها كاتب السيناريو أنتوني مانتل.
لقد خلق تدفقاً لاهثاً لم تستقر فيه الكاميرا أبداً، عالم حافل بالتربص والكيد، حب متوتر تخفق له القلوب، ممثلون لأول مرة نراهم برعوا كأنهم احترفوا اللعبة منذ زمن، قادهم المخرج بنجاح أثبت فيه جدارتهم وجدارته هو.
لغة الإيقاع، وأعني بها المونتاج، على الرغم من أن الأفلام كثير منها ينحدر إيقاعها إلى الهبوط حينما تلتجئ إلى الفلاش باك، لكن هنا في هذا الفيلم ظل التواتر إلى اللحظة الأخيرة. لم يكن هناك شيء فضفاض، الخطوات محسوبة بدقة متناهية، بعض المشاهد لم تكن تخلو من الحس التجاري كي يحظى الفيلم بتسويق يضمن الربح ويبتعد عن الخسارة، وهذا ما تحقق فعلاً.
(المليونير المتشرد) فيلم التعساء الذين دحروا تعاستهم بالمحبة والعطاء، تعلموا كيف يمنحون بعيداً عن العنف. أناس ولدوا بأقدام يبللها الوحل، لكن عيونهم تطل منها النجوم الطالعات.
بقي أن نعرف أن المخرج داني بويل قد غاب مرة أخرى ليظهر في مشاريع وضعته في خانة النسيان تقريباً، إذ قدم أفلاماً لم تحظ بالنجاح الذي حققه في (المليونير المتشرد)، أفلام ومسلسلات قصيرة مثل ( ١٧٢ ساعة، فرانكشتاين، رعب بابل- مسلسل قصير, فيلم لم يلاق النجاح يتحدث عن عالم المرئيات- ستيف جوز- مسلسل قصير) البعض أحياناً يفضل استعادة بعض الأفلام للمشاهدة، وفيلم (المليونير المتشرد) واحد من هذه الأفلام، جدير بالمتابعة والمشاهدة.