لعل العراق الشقيق من أكثر البلاد العربية احتفاظاً بطابعه الشرقي العريق وأقلها انطباعاً بمظاهر المدنية الغربية، فسحر الشرق وروعة الماضي تطبعان كل شيء فيه وتطغيان على مظاهر الحاضر، فقد ترك العراقيون قشور المدينة الغربية واستفادوا من لبها بعد أن أحاطوا بهالة من جلالة الماضي وعظمته..
وإن نظرة إلى مدينة الموصل وهي ثاني المدن العراقية لتوضح لنا هذا الاتجاه، وترينا هذا الامتزاج العجيب بني القديم والحديث. فلنتجول جولة سريعة في أنحاء تلك المدينة التأريخية. ولنبدأ بالمحطة ونلق نظرة على فندقها الفخم وهو مبني على أحدث طراز يأخذ بعين الغريب ويجعله يتصور أن أبنية الموصل كلها من هذا النوع، ولكن تعال بنا لنركب إحدى عربات الحنطور، وهي من أهم وسائل المواصلات في الموصل لتخترق بنا شوارع المدينة.
ها نحن الآن في شارع نينوي الشارع الرئيس في المدينة، وقد شيده الأتراك أثناء الاحتلال التركي، ترى شارعاً طويلاً على جانبيه محال تجارية ودكاكين لكل منها طابع خاص، وكأنها تعيش في بلاد مختلفة، فهذه مناظر تذكرك بخان الخليلي وجوّه وأحلامه، وتلك محال تكاد تكون حديثة في كل شيء بجانب دكان لا يزال يعيش في العصر العباسي، عصر هارون الرشيد.. وهذا برج عال تطل من أعلاه ساعة فخمة ظلت تطل على سكان المدينة وتملأ الجو بدقاتها منذ أكثر من ثمانين عاماً..
ثم نصل إلى جسر الملك غازي على نهر دجلة حيث نجد أمامنا بناء غريباً تعجب كل العجب لوجوده في تلك البقعة ،أنه قصر كبير لا هو على الطراز الشرقي ولا هو على طرازنا الحديث.. إنه على الطراز الياباني، وقد شيد في بقعة منعزلة حول حديقة لطيفة، وقد بناه طبيب أرمني ولست أدري السر في اختياره هذا الطراز بالذات..
ثم لتتحول العربة إلى شمال المدينة ولكنا سنضطر للوقوف.. أن العربة لا تستطيع المرور فعلينا أن ننزل لأن الشوارع ضيقة لا تسمح بمرور العربات فيها.. سنمشي على أقدامنا فيطالعنا الجامع الكبير، أو جامع النوري نسبة إلى نور الدين أتابكي من الدولة الأتابكية، ولعل أعجب شيء به هو تلك المنارة المائلة ويسميها أهل الموصل منارة الحدباء، لأنها مائلة عن الاستقامة العمودية، وفي كل وجه من وجوهها نقوش هندسية بديعة الشكل، ويقول الموصليون إنه إذا كان بالعالم سبع عجائب، فإن منارة الجامع الكبير بالموصل هي ثامن عجائب العالم لدقة بنائها مع ميلها!
لنترك الجامع الكبير بمنارته التأريخية ولنذهب إلى الجهة الغربية من المدينة وهناك نجد مرقد قضيب ألبان، وهو من الأماكن الأثرية المشهورة.
دعنا الآن من هذا القسم القديم، ولنذهب إلى حي الدواسة.. سنجد أمامنا عالماً جديداً لا تقع العين فيه إلا على كل حديث، فهناك فيلات على جوانب الشوارع المعبدة النظيفة تنقلك إلى جاردن سيتي أو المعادي ثم ترى أمامك بناية حديثة أنشئت على الطراز العربي الجميل هي بناية المحاكم وقد افتتحها الوصي على عرش العراق في الصيف الماضي في احتفال كبير…
مسامرات الجيب 26 – 1 – 1949