الوحدة ليست خياراً.. ولكن؟

أنسام الشالجي /

الوحدة ليست خياراً، لكن ظروفاً حياتية ترغم البعض عليها، هناك من يتحملها ويتعود عليها ويعتبرها أسلوب حياته، بينما آخر يشعرها جحيماً رغم معرفته أن لا فرصة أمامه إلا أن يستمر وحيداً.
الفرق
بدءاً لابد من أن نفرق بين الوحدة والعزلة وبين الوحدة المؤقتة والدائمية. والمعروف في علم النفس أن عدم التغلب على الوحدة يؤدي إلى العزلة، التي تعتبر حالة مرضية وأحياناً تكون خطرة وتتسبب بالوفاة. أما الوحدة المؤقتة فسببها مثلاً الانتقال من موقع إلى آخر، مدينة، بلد، حي سكني أو عمل وتنتهي مع التعود على المكان الجديد ومن فيه والبدء بعلاقات زمالة أو صداقة، والدائمية التي تبدو صعبة إن لم نتعامل معها، ولاسيما إن كانت الظروف كما أسلفنا قد تفرضها علينا، ليس في العراق وحده، إنما في كل بلد هناك نسبة لا بأس بها من الأناس الذين يعيشون لوحدهم وقليلون جداً كانت الوحدة خيارهم الشخصي.
نموذج
السيدة وداد (اسم غير حقيقي،٥٠ سنة) قدمت من محافظتها الشمالية للاستقرار في بغداد بعد ارتباطها بشاب، جمعهما الحب أثناء الدارسة الجامعية، أنجبت ابناً واحداً. ولانشغالها بالوظيفة والعمل، أصبحت زياراتها إلى أهلها نادرة، ومن ثم وبسبب الظروف الأمنية اقتصرت معهم على الاتصالات الهاتفية. قرر ابنها أن يهاجر في ٢٠٠٦ ليستقر في استراليا، ومنذئذ لم تلتق به، وقرر أفراد عائلتها السفر إلى الاْردن، وبينهم من هاجر إلى أوروبا وأصبح اللقاء بهم صعباً جداً، أصيب زوجها بالسرطان وتقدمت بطلب إحالة مبكرة إلى التقاعد لتهتم به ولاسيما أنه الابن الوحيد لوالدين انتقلا إلى رحمة الله، وتوفي قبل سنتين وبقيت وحيدة. أشير إليها لكونها نموذجاً يقتدى به في كيفية التعامل مع الوحدة وتحويلها إلى طاقة إيجابية.
الاطمئنان
في ورشة عمل عن التأقلم مع الوحدة، كانت وداد المدربة بعد أن تعرفت إليها من خلال صديقات لهن اهتمام بتحسين ظروف الحياة اليومية، وكان نجاحها في التغلب على وحدتها قصة تروى دائماً.
تقول وداد إنها، وبعد انتهاء مراسم الفاتحة، وجدت البيت فارغاً تماماً برغم أن ابنها كان يتصل بها يومياً، وبدأ معاملات لمِّ الشمل لتلتحق به في استراليا، وبانتظار أن ينتهي من تلك المعاملات، قررت أن تنتصر على نفسها وتتعامل مع وحدتها كواقع لامهرب منه. كانت خطوتها الأولى أن تنظم يومها بالورقة والقلم. صباح كل يوم بدأت تضع لنفسها جدولاً يتضمن الذهاب إلى السوق وشغل البيت ونوعية الأكل وتعلم مهنة يدوية مثل الحياكة والتطريز والرسم، ودخلت دورة لتعلم الرسم الذي أحبته جداً. وقررت أن تنظم معرضها الأول بعد سنتين من لقائنا بها. أصبحت تقرأ، وبمرور الأيام عرفت ماذا تقرأ لتستمتع، وطلبت من ابنها أن يتصل بها لمرة واحدة في الأسبوع لمدة ساعة تتحدث خلالها معه ومع زوجته وابنتيه، وفاجأته يوماً أن يتوقف عن معاملات لمِّ الشمل لأنها بدأت حياتها مجدداً وليست على استعداد أن تبدأ من الصفر في بلد بعيد جداً. وأساس كل هذا النجاح وتحويل الوحدة إلى طاقة إيجابية كان التصالح مع النفس وعدم الحقد على الظروف والآخرين، وبكلمة واحدة.. الاطمئنان.
الحمد
والحسد؟ سألتها يسار (اسم غير حقيقي) والتي تحسد كل من تراه حولها في العمل أو الأقرباء حتى لو كان بمستواها نفسه لدرجة أن بدأ الجميع يبتعدون عنها حتى داخل البيت وأصبحت وحيدة ومن ثم منعزلة عن الجميع، وبدأت تخطط للانتقام أحياناً وبالانتحار في أخرى، وأصيبت بقرحة في المعدة.. وأجابت وداد بأنها طالما تعرف السبب أو الداء فإن الحل أو الدواء سهل، والخطوة الأولى أن تخرج من عزلتها في البيت، أن تغادر غرفتها، وكلما رأت جديداً في البيت أو عند أخواتها اللواتي تزوجن، أن تقول (ما شاء الله) كي يتأكدوا أنها تركت الحسد. وفي الدائرة، أن تطلب النقل إلى فرع آخر وهناك تبدأ علاقات سوية والانتباه إلى شعورها، لأن الحسد يكون واضحاً في العينين، والأهم أن تلفظ دائماً (الحمد لله) لأنها أفضل من كثيرين، فهي لا تدفع إيجار بيت ولديها شهادة عليا وراتب، وأكدت أن الإكثار من الحمد يمنح الاطمئنان ويفتح الكثير من الآفاق والفرص ولا ننسى قوله سبحانه (لئن شكرتم لأزيدكم).
وتغيرت يسار وأصبحت امرأة أخرى، لكنها لم تغادر وحدتها التي أحبتها وأصبحت مثل وداد أسلوب حياتها وقوتها في التعامل مع الآخرين.
وأخيراً
تواجهنا أمور كثيرة في حياتنا وترغمنا أحياناً أن نغير أسلوب الحياة التي تعودنا عليه، المهم أن لا ندفع أنفسنا إلى الإحباط واليأس، فدائماً هناك فرصة للبدء من جديد، وإن كنا وحيدين، لابد من أن لا ننسى أن الله سبحانه معنا، أي الاطمئنان والذي يشكل، كما قلنا، أساس الطاقة الإيجابية..