أحمد هاتف /
لا أؤمن إطلاقاً بتلك المقولة البلهاء “كل الدروب تؤدي الى روما”.. ليس لأن الدروب ماكرة، بل لأننا الخطوة والمسار، فأن تتراجع فإنك تتراجع بالمسافة التي تفصلك عن نفسك، والعكس قد يكون صائباً.. لذا لا روما واحدة في “الهناك” لأنها متعددة، لكل منا روما خاصته.. لهذا قصد الكثير دمشق ولم يتركوا فيها “عربانه”، ولا تيتاترو، ولم يعيشوا بعمق / أيامها المخمورة، ولم يجدوا “الكهرب” ولا إناث القمر..
نحن دائماً من نصنع مدننا، نلونها بذواتنا ونحبها ونختلف معها عندما لاتكون عشيقة، لاتمنحنا المدن مانريد، لكنها تمنحنا “مقدار جهدنا، وبعض مقاسات مانحلم به”.
باسم قهار، المولود تحت سماء آب الحارقة، الحامل إرث الجوالة، ذاك الشاب الذي لفتني يوماً في منتدى المسرح بصفنته، وعمق تأمله.. لم أك أعرفه إلا قليلاً.. فقد كان قصة صغيرة لجدل وحسد.. اختفت بعد سنوات ليتنفس البلداء الصعداء ظناً منهم أن ستار الغربة سيخبئ ذاك النمر.. وسينتهي الى الصمت كما غيره ممن شربت الغربات معهم كأس القهر .. لا أدري لماذا يثير باسم في ذهني ذاك الجوال في رواية “الأشجار” لعبد الرحمن منيف.. إلياس تحديداً، ومثلث عشقه لـ حنا.. وتجواله بحثاً عن ذكريات ومرح وأحزان إضافية ووعي إضافي.. لم يقل لنا منيف أين اختفى إلياس بعد موت حنا وحماره سلطان.. لذا أكمل باسم الحكاية.. حكاية الرافديني الذي يجر عربة الشمس صعوداً لوهم الخلود.. لذا ركب باسم قهار مع مظفر النواب أولى تجارب الغربة في “العربانة”.. تخيلوا.. استطاع باسم ترويض الأسدين معاً.. مظفر النواب وقصائده ليسكبهما في عمل مسرحي معلنا عن ولادة “روما خاصته”.. ومن هنا تصاعد باتجاه عمل آخر حمل بعض جنوحه المسرحي: “كهرب” التي كانت بدايات خط الأسئلة الكبرى في مشهدية بصرية لم يألفها المسرح السوري، فكانت حجر الزاوية في بناء تجربته المسرحية.. تلتها “أيام سعد الله ونوس المخمورة”.. لا أنصحك بمرافقة باسم قهار حين يواعد عملاً مسرحياً.. فنصفه هو من يتحدث إليك، فيما نصفه الآخر يغيب هناك، ومايلبث أن يفرض عليك كأسه وسكرته ويجول بك في رؤاه محاوراً، ومشاوراً وحالماً.. هو آخر في هذا الوقت بالذات.. يذوب صوته وتنحسر حكاياته، ويضيق به المكان، ويغدو كأنه يتمدد فتخنقه المقاعد، لذا استعد للتجوال، واترك باسم يدوزن همه المسرحي واكتفِ ببعض صوته الخارجي.. لكن إياك أن تطلق حكمك النهائي حتى تفتح باب القاعة وتغيب الوجوه في الصمت وتعلن الأضواء حضور الممثل.. هناك سترى هذا الرجل على حقيقته التي لاتعرفها إلا أوان العرض.. هو آخر تماماً.. حائك فارسي عجوز يرسم بأناة نهر وصبر نملة.. يمدد الدوائر، ويعري الأرواح، ويخلق كائنات لاتشبه الممثل، لكنها تشبه باسم الداخلي، الجوال، المتصوف، الباحث، صانع الصمت، ومحدث اللغة، اللغة هنا هي كلما هو محسوس، ضوء، موسيقى، حوار، إيماءات، دندنة، خطوات.. تجد الممثل معلقاً بخيط مشدود الى أصابع باسم، يحركة ويطلقه ويسكته وينثره ويقلصه كما يشاء.. هو إيقاعي حد الهوس، يعيش المشهد كما لو أنه يطلق صرخة أوبرالية محسوبة بعناية.. من هنا جاءت النصوص شديدة الشبه بروحه، يقرأ بقلق كما لو أنه سيموت في السطر الثالث، لذا غالباً مايعترض، يعدِّل، يصمت ليأتي بتعديل آخر وآخر وآخر حتى يموت الأصل ليولد صوته.. وحين تسأله يبدو مستاءً لضيق اللغة، فهو بحاجة إضافية دائماً لاستئجار مساحة أخرى لمخيلة من يعمل معه.. في “تياترو” كنت أراقبه بعد بدء العرض، وكنت أراه يريد أن يقفز للمنصة كل لحظة ليعيد دوزنة الممثل، رغم أن الأداء كان مذهلاً.. في التلفزيون وفي السينما وفي الفيلم الوثائقي ارتمى باسم قهار، محاولاً أن يجد ضالّته، لم يتكرر بتلك الطبقات التعبيرية، بل احتفظ بأصالة التعبير، وخصوصية النافذة الإبداعية، فهو في المسرح يدرك محنة المتفرج المدرك، لذا يتعالى صوته وتتعمق فلسفته، وفي الوثائقي يتحول الى باحث يمتلك مجهرية نادره تتغلف بمشهد يحتوي ظاهراً بسيطاً وباطناً معقداً، إنه المهموم بصوت الاجتماعي الباحث الذي يحاول أن يرتقي بنمطية البحث عبر تحفيز الساكن وغير المتغير، ربما يحاول أن يفك شفرات السكون ليحركه وفق آليات جديدة… اعتاد باسم قهار أن يختبر أدواته، يضع رهاناً ليتفوق او ينكسر، ولأن لديه ولع الانغماس فيما يصنعه، أراد أن يقف هناك في حيز الممثل، تاركاً للمخرج أن يحركه، نعم، أراد أن يختبر دور الضحية التي كان جلادها دائماً في حدوده كمخرج، لذا وقف في دائرة الضوء ممثلاً في العديد من الأدوار.. مثلاً “اوركيديا ، سقوط الخلافة، هدوء نسبي، خالد بن الوليد، نزار قباني، الظاهر بيبرس، مملكة الغجر، آخر نفس .. اضافة الى دوره في الفيلم الفرنسي كارلوس”.
ولأن الممثل في العلن أكثر من المخرج لمع باسم قهار ممثلاً، له كاريزمته الخاصة، وحضوره المؤثر بعمقه الذي يعمل فيه محاولاً إيقاد شخصياته من الداخل بوعي وحرفية وفهم عميق.. هو الممثل المدرك الذي يجيد إدارة نفسه ورسم معالم الشخصية لتكون لها سماتها الخاصة، ولذا نجح باسم قهار الذي يمتلك، إضافة لما تقدم، وجهاً يحبه التعبير ويجيد صنع المشاعر بوضوح، كما يتفرد باسم بميزة الشكل الذي يتناغم والأدوار المتناقضة كما فعل في مسلسلي “آخر نفس.. ومملكة الغجر” حين قدم شخصيتين متناقضتين تماماً.. كدالّة على انفتاح طاقته الأدائية على العديد من الشخصيات.. باسم قهار، الرجل المنسجم مع نفسه، مايزال يعتقد أن المسافة بين الفعل والقناعة متباعدة، لذا سنراه يعمل كثيراً ليقترب من نفسه وليصنع من غده مدينة آمنة قد تصلح لاسترخاء الغرباء.. وأقول لباسم ماقاله ميلر: “كن حلماً تعش الى الأبد “..