كريم محمد/
انظر إلى الأعلى واشاهد الطيارات الورقية الملونة ترفرف وتنحرف ثم تميل في السماء الصافية، لا اتذكر اني شاهدت أبدا مثل ذلك العدد من الطيارات الورقية.
اسأل – هل اليوم يوم مهرجان؟- يقول رجل (السكوتر) – لا يا سيدي انه ليس حتى يوم عطلة. (لا يهتم ولا حتى يرفع رأسه لينظر الى الأعلى) يمكنك مشاهدة الطيارات الورقية كل يوم يا سيدي. (لا أراها في دلهي) – آه! لكن دلهي مدينه اشغال كثيرة في (اكرا) لا يزال الناس يطيرون الطيارات الورقية وهناك سباق لها يقام كل يوم، وفي بعض الاحيان يكون هناك رهان كبير على النتيجة.
ولدى اقترابنا من المدينة، اشاهد الطيارات الورقية ملتصقة بالاشجار أو متدلية من اسلاك الكهرباء، ولكن هناك بعضها الآخر تعلو لتتخذ مكانا لها. اطلب من رجل (السكوتر) ان يخبرني عن الذين يصنعون الطيارات الورقية وعن الذين يعملون لطيرانها، الا ان الموضوع يثير فيه الملل (من الافضل لك يا سيدي ان تشاهد “تاج محل”) (سأتناول وجبة فيما بعد)
تاج محل
انه من الصعب مشاهدة (تاج محل) في وقت الظهيرة فأشعة الشمس تضرب الرخام الأبيض لتحدث زغللة كبيرة في الضوء الذي يعكسه الرخام، اقف هناك وأنظر الى الحدائق الرسمية والجدران المحيطة المبنية من الحجر الرملي الأحمر، والنهر المتعرج، اشاهد كل شيء عدا الضريح الذي حضرت لأراه.
بعد فترة قصيرة اترك عيني تجوبان الرخام الأبيض المتلالىء. يرتفع في موجات من حجارة الصيف وتخلق القطع المربعة من الرخام الأبيض والأسود اثرا في المياه المتدفقة. انظر بنوع من الراحة الى منظر النهر. يمر نهر (يامونا) الكسول وسط (اكرا) في طريقه الى الاتحاد مع نهر (الكنج) الذي مياهه باردة زرقاء من الثلج الذائب ويشق طريقه وسط حقول الحنطة وقصب السكر والخردل وعبر السهول المسطحة، أما ضفافه الطينية فهي مكرسة لنشر رقع الملابس التي ينشرها الغاسلون الذين يخدمون المدينة.
اتبع الطاووس، الى ايكة مظللة، انه طائر اليف لا يطير يقودني الى صبي يجلس تحت ظل الشجرة اسأل الفتى: هل تقيم هنا؟ يقول لي: وراء ذلك الحائط، ولكنني احضر الى هنا لكي اساعد والدي. لهذا تشاهد انت (تاج محل) كل يوم. لقد شاهدته لأول مرة، انك لسعيد الحظ، يهز كتفيه ( انا احب مشاهدة الناس الذين يحضرون الى هنا فانهم مختلفون دوما وسيكون هناك الكثير من الزوار) في المساء تكون قد شاهدت الناس من كل بلاد العالم تقريبا. يحضر جميعهم الى هنا لمشاهدة (تاج محل) فهنا الملوك والملكات، والرؤساء والممثلون والفقراء ايضا. في الضوء الخافت يمكنني النظر الى (تاج محل) من دون ان اغمض عيني. هناك يرقد جمال (تاج محل) كأثره قبل ثلاثمئة عام لا يمكن ان تجد جزءا غير مصنوع بحذق أو الذي لا يكون له جماله الخاص.
ولبضع لحظات هذه الاسطورة من الرخام هي امام شخصين غير مهمين كاتب متجول، وابن البستاني.
ممر النهر
لا اقول شيئا، ليس هنا اي شيء اقوله لكن بعد بضعة اشهر عندما احاول استعادة جوهر ذلك اليوم فليس هو الضريح الذي اتذكره طبعا (تاج محل) هو هناك ولا ازال اراه كمرآة للشمس، لكن كل ما تبقى معي اكثر من شيء آخر هو ممر النهر ووجه الصبي البستاني الذي قادني الى الرجوع لبطون الكتب لاتابع وافحص تاريخية هذه الاسطورة لاجدها قصة محزنة ذاق مرارتها عشرون الف عامل هندي وصيني طيلة ثمانية عشر عاما صبرت نفوسهم وتحملت كواهلهم القوية هذه الحجارة الثقيلة التي جلبت من شتى انحاء البلاد، وحفرت نقوشها ايدي اقدر الفنانين، والمهندسين، والبنائين، وانفقت ثروات كانت تأخذ من الشعب ليرصعوا القبر بالماس واللالئ النادرة والذهب الخالص ولتشبع ببهرجته رغبة “شاه جيهان” ولتخلد حبه ووفاءه لزوجته “ممتاز” التي اشتهرت بجمالها وحسنها الفريد بين الواح المرمر البيض التي تغلف البناء من الداخل والخارج فهو رمز الحب والوفاء انه وردة معمارية تدخلها من مدخل جميل وعميق، وما ان تجتاز قنطرة، حتى تفاجأ بمنظر فني تتوق النفس للاقتراب منه وترغب بالدخول اليه، وعليك ان تجتاز حديقة منسقة يتوسطها فرع من نهر “الجومونا” وتحتضنه من الجانبين شجيرات السرو السود لتذكرك بأن التحفة الضاحكة التي تقصدها شيدت بالحزن، والبكاء على الحبيبة الوفية، يمر فرع النهر وسط التاج مرورا عجيبا تحت البناء الفخم الذي تعلوه خمس قباب، قبة رئيسة في الوسط، واربع صغار طوال من اطرافه، أما الشرفات والأبواب الخارجية فكلها من المرمر النقي المنحوت نحتا دقيقا والقوس المحيط بالباب سجلت عليه آية قرآنية نحتت من المرمر الأسود بخط عربي غاية في الفن.
اسماء الله الحسنى
ويحكى ان الملك “شاه جيهان” قد استوحى هذه الفكرة من النفس الشرقية المطبوعة بطابع الحزن والبكاء على اطلال الحبيبة الراحلة بنقطة ماء واحدة تقطر من قمة المبنى المحاط بأسماء الله الحسنى والذي زخرف سطحه بأشكال من الزهور والأشجار كلها صنعت من المرمر المنحوت المزخرف، نقطة واحدة كل اربع وعشرين ساعة تخليدا لدمعته الحزينة عليها ولساعة موتها، وحاولت ان انتظر ساعة نزول الدمعة فأجابني زائر آخر: لقد حيرت الدمعة حكام الهند قبل مائة عام، وذهب الفضول بهم مذاهب شتى لمعرفة سر صعودها، وهبوطها في ساعة معينة فأحضروا لذلك الخبراء، والمهندسين، ونزعوا بعض اللوائح المرمرية من الجدران، والقبة حتى عثروا على مضخة صغيرة للماء، وقناة، ولما يقفوا على سر صعودها، وهبوطها اعادوا كل شيء الى مكانه ولكن الدمعة الرمزية توقفت عن الانهمار.
بذخ وافلاس
ويروى ان الملك العاشق قد امعن في الوفاء والتضحية التي كلفته اخيرا عرشه وحياته، وذلك حينما ادرك ابنه الواعي وتحسس سخف أبيه وبذخه وسفهه الذي كاد يودي بخزينة الدولة إلى هاوية الافلاس، فرجى أباه ان يكف عن هذا المشروع العقيم الذي جمدت به أموال الدولة، وضاعت به جهود الشعب، ولكن الملك العاشق لم يصغ وراح يمعن في غيه، ويجد في اسرافه فضاعف العمال، فلم ير ابنه بدا من ردعه بأن يحجره ليحد من افراطه وتصرفاته الصبيانية ولكن الغريب في أمر العاشق ان ابنه لما سأله عما يجب ان يحقق له ليرفه عنه في سجنه. فرجاه الأب الحزين ان يفتح له نافذة يطل منها على هيكل الـ “تاج محل” فاستجاب إلى طلبه وقضى بقية حياته يناجي التاج.