موفق مكي /
لم يكن تقليداً روتينياً خالياً من الإثارة, ذلك المعرض الشامل الذي احتضنته جمعية التشكيليين العراقيين هذا العام والتي اعتادت على تقديم معرض شامل بداية كل عام، ولكنه موعد يتميز بالترقب والإعداد والاستعداد الدقيق من قبل الفنانين لتقديم أحدث ما لديهم من إبداع نضج تماماً بين دواخل الفنان وبراعة يده المنتجة.
اصبح ذلك الابداع كائناً له حيز ولغة يتحدث بها داخل قاعات الجمعية ومادة لتفاعل وتبادل للأفكار بينه وبين جمهور مثقف اعتاد الاختلاف الى قاعات العرض وآخر متخصص باحث عما استجدّ لدى الفنان العراقي من أفكار وأساليب معبّرة عن تطورها، متابعاً تيارات الحداثة الفنية في زمن تجد الكثير من أدوات التعبير صعوبة في إيجاد هويتها ومسارها الواضح. وعادة مايشهد المعرض السنوي للتشكيليين العراقيين ذلك التنافس الفني بين الفنانين الذين ينتمون الى أجيال متقاربة وكذلك بين الأساليب التي عرفوا بممارستهم الفن من خلالها.
فتجد حركة واضحة نحو التجدد والخروج من المراحل السابقة عند بعض الفنانين أصحاب الأسماء الراسخة في المشهد التشكيلي وبعض الركود وتفضيل التكرار لدى البعض الآخر، ما يوحي بأن حركة الحياة وتطورها السريع يؤثران على مجاميع الفنانين بصورة متباينة، بل إن تفاعل الفنانين مع تلك العجلة التي تدور بلا توقف يتباين بين فنان وآخر تبعاً لحيوية واحتدام دواخل الفنان وما يمكن أن ينتج عنه من إبداع.
قد يشكل الأسلوب وثباته لدى الفنان نوعاً من القيد أمام تطور العمل الفني ونموه مع تطور المتغيرات حول الفنان يتحول الى نمطية معرقلة تضع الإبداع في دائرة التكرار.
يعمد الفنان أحياناً الى المكوث في حيز تجربته التي لاقت نجاحاً على صعيد التسويق والقبول في الأوساط الثقافية، وهو بذلك لايستجيب لروح المغامرة التي غالباً ما تحكم الإبداع وكونه حركة حلزونية دائمة التقدم.
ولذلك نجد الكثير من اللوحات المحافظة على نمط واحد خشية الابتعاد عما يسرّ المشاهد.
بذلك تخسر التجربة الفنية أهم عنصر من عناصر ديمومتها وتطورها والدخول في أقاليم وفضاءات جديدة رحبة أكثر اتساعاً.
إن في عملية المكوث في التجربة قطعاً للعمل الفني ومساراته الزمنية التي بدأها من الحركة الأولى للفرشاة او الشفرة، ذلك العمل الفني هو إبداع متصل بماضي وحاضر ومستقبل لايمكنه التوقف عند نقطة واحدة بل هو خارق لهذه الأزمنة، متحول في كل قضية من حال الى حال جديد تبعاً لما تأثر به الفنان بمؤثرات عدة داخلية وخارجية، مضيفاً الى عمله ثمرة الانفعال الحالي والتجربة التراكمية التي أنتجتها الأسلوبية التقنية في بحثها المستمر. ولذلك فإن المنتج الإبداعي قارب سائر في خضم نهر متدفق باستمرار وهو حركة الزمن بجريانه الغامر.
وأي توقف هنا او مكوث في بقعة هو كسر لحركة وديمومة التخلق الإبداعي. وعلى العكس تماماً نجد أن الكثير من الفنانين الشباب في المعرض السنوي للجمعية لهذا العام قد أعلنوا عبر أعمالهم الفنية عن خطوة واسعة وبصمة واضحة في ذلك التنافس الخلاق، فقد برزت عدة أسماء في موجة واثقة الاندفاع نحو فن متجدد باحث عن مكانه في سفر الفن العراقي العريق.
وبجدارة توصل العديد من الفنانين الشباب الى هدفهم في مجاراة أساتذتهم ومن سبقهم في معترك التنافس الفني الذي لايهدأ.
ومن أصل (150) عملاً فنياً متوزعة بين الرسم والنحت والخزف عرض (56) فناناً شاباً أعمالهم بين تلك الأعمال، وهي نسبة تعد كبيرة لو قيست بمقاييس السنوات السابقة، حيث كانت مشاركات الفنانين الشباب أقل من ذلك بكثير، إضافة الى التطور الكبير في إنتاجهم الفني الذي عبر مرحلة التجريبية ليصل الى العمل المستقر. انطلقت تلك الموجة الشبابية الجديدة من التغيير الذي حدث في النسيج الكلي للوطن وما صاحبه من أحداث عصفت بكل المستقرات السابقة، وعن طبيعة تلك الأحداث الجسام التي تمر على الإنسان المأزوم الذي اهتزت أمامه منظومة القيم وأن تبعثر العالم القديم أطاحه وخلط حطامه وأجزاءه بعضها فوق بعض، ومن هنا تتكون صورة جديدة من هذا الركام مختلطة مع ما حدث داخل الإنسان الذي تعرض لهذا التصدع الكبير ليلملم من بعض قطع الركام مشهداً جديداً هو شاهد على ما حدث من تكسرات روحية وسايكولوجية واجتماعية. من هذه الأرض الجديدة انطلق الفنانون الشباب ليبتكروا أعمالاً مختلفة النوايا تحمل هموم تلك السنوات العصيبة بطرق ليست بعيدة عن التي سبقتها بل كانت ابناً شرعياً لقرن من الفن العراقي بأسلوبها ومرتكزاتها التقنية او بروح جديدة خاضت غمار ذلك الاهتزاز الكبير الذي حل بالوطن.
اعتمد بعض الشباب من الفنانين على زج الإرث الرافديني القديم واستحضار رموز من لوحاتهم بطريقة جديدة متخذين منها مادة للتعبير عن جذورهم العميقة الغور في التاريخ، وللتمسك بالبعد التاريخي للإنسان العراقي جاءت هذه المحاولات الفنية بأساليب مغايرة لتلك التي ألفناها من قبل. وقد نجح مستخدمو هذه الرموز في إيصال أفكارهم الحداثوية الى المشاهد والمتابع للفن.
نستطيع القول إن التجمع الفني الذي أتاحه المعرض السنوي لجمعية التشكيليين العراقيين هذا العام هو كشف متسع لاختمار التجارب الفنية فكراً ومقدرة تقنية عند نخبة خلاقة من الفنانين العراقيين وعرض لما ابتكرته خيالاتهم من تفاعل حيوي مع الحياة.