تعاشقٌ روحيّ بين الشعب والقوات الأمنية

ذو الفقار يوسف – تصوير: صباح الامارة /

“يا خوة اناغيها احنه…
نكضيها بساع المحنة…”

كما الحواس عندما تهزها المشاعر، هناك عند مسيرة الأمنيات، سرعان ما تندمج تلك الأرواح التي تشاركت بالقلب والصوت، شعب قد آن أوانه ليغازل الحرية، بمساعدة درعه الحامي الذي يتمثل بإخوته في الأجهزة الأمنية، أليس هذا العشق الهيامي الهوى كفيلاً ليجد العراقي مبتغاه، أو لهذه الأواصر التي امتزج بها الهتاف نحو الأمل أن تنتصر، ها هم يتكاتفون بعنوان السلام والطمأنينة القصوى، فلا تفرقهم لعنات الحروب، ولا العويل المبعثر.
عندما تكون الحروب هي سيدة الوقت، تندفع الإنسانية إلى أقصى حدودها لتخلق أواصرَ ليس لها مثيل بين الشعوب الأخرى، وهذا ما خلفته الحرب في العراقيين بين الشعب والقوات الأمنية بتنوعها، فهم من الشعب والشعب منهم، ولاسيما في الحرب الأخيرة في معركتنا ضد إرهاب داعش، إذ استطاعت هذه القوات أن تتصدر العالم بأفضل مراحل التضحية والفداء، ومع انطلاق الاحتجاجات في العراق لم ينسَ الشعب هذه التضحيات فسطروها بمواقف إنسانية سنوجز البعض منها في هذه السطور المتواضعة أمام كبرياء العلاقة وتوهجها.
وردة وعلم
ابتدأت مسيرة التظاهرات في قلب عاصمتنا الحبيبة، إذ ارتمى بكنفها شعبها بجميع فئاته وشرائحه، أقبل أبناء العراق فاستقبلهم إخوتهم من القوات الأمنية بهتافات الحرية. الجندي أحمد صباح (44 عاماً) استقبلنا عند تقاطع الكيلاني بضحكة لاتنسى من ملامح عراقية، وقد أطلقت كلتا يديه هديتين: كانت الأولى وردة حمراء ممزوجة بخمرة ابتسامته، والثانية علم عراقي كان قد التف على راحة يده بسبب الرياح فرفض فراقها، تمسك بمقولة رددها على مسامعنا مرة تلو الأخرى بنبرة توسل: “شباب سلمية لخاطر العراق”، وجاء الرد من إخوته المتظاهرين: “العراق عراقنا كلنا ولا تخف علينا، أكيد سلمية”، هذا التقارب هو مايجعل من نفوسنا وديعة، وآمالنا مؤكدة التحقيق لبلد يخلو من الحروب والأزمات، وأنه مهما كانت الصعاب والشدائد، فبتكاتفنا وخوفنا على هذا البلد سوف نحقق المستحيل.
1-1
سواسية هما في الحب، فقد ترى متظاهراً يتكئ على كتف أخيه الجندي عندما يخوض في غمار الهتافات، وترى آخر قد توسد أحضان أبيه الشرطي الذي يوجهه أن لا يجعل إلا العراق وسلامه الأول في كل شيء، وأن المتظاهرين هم إخوته في الروح والبلد.
وهذه نتيجة ما ختمت به مبارة بكرة القدم بين المتظاهرين والقوات الأمنية في إحدى التجمعات التي حصلت في محافظة الديوانية، بعدما اجتمعت هاتان الفئتان بأن تخوضا مبارة العشق، وتمثلا المحبة بأبهى حالاتها في لعبة الود والسلام، لكي نخرج بنتيجة المساواة منتصرين متكاتفين رغم أنوف المحرضين.
“لفّة أم علي”
أم علي (54 عاماَ) افترشت أحد الأرصفة المجاورة لساحة التحرير، لتصنع السندويشات للمتظاهرين، تُحدثنا بقلب ابتسم قبل الفم وتقول: “لقد خرجت لأطعم أبنائي، بعد أن علمت من إحدى جاراتي أن هناك من يحتاج إلى الطعام من المتظاهرين، وها أنا الآن أصنع السندويشات من الجبن والبيض بفرحة لا توصف، فكلمة “يُمّة” تجعلني أصنع المزيد وأقاوم التعب، ليس هذا فقط بل أن أبنائي من القوات الأمنية صاروا يقصدونني طلباً للطعام، بقولهم لي: “يمّة أم علي، لفاتج بيهن طعم ونفس أمهاتنا”، وأنا متأكدة بأن نفوسهم الطيبة هي ما تجعل الطعام طيباً، ولأن دعائي لهم وخوفي عليهم قد رافق كل لفّة أحضرها، فهم بناة العراق ومستقبله، ولا نريد أن يشعروا بالجوع أو البرد أو التعب ونحن ما نزال نتنفس”.
حمودي و”النكات”
يتسم الشعب العراقي بمزاحه وضحكاته التي لا تفارق وجهه، فقد تراه يبتسم وهو في أصعب المواقف وأحزنها، حتى أنه يبتسم في مناسبات العزاء ويحول الحزن إلى ابتسامة مشرقة. محمد جاسم (29 عاماً) والذي يحب أن ينادى بلقب “حمودي نكتة”، اتخذ من منبر الحرية طريقاً لإطلاق “نكاته” على مسامع الجميع، فهو يتفنن فيها ولأنها كما يقول “بالباكيت”، يقول: “لقد عرفني جميع من في ساحة التحرير وأخذوا يقصدونني لسماع ما أطلقه من (النكات)، وبالرغم من ابتساماتي التي لم تفارقني وأنا في ساحات الاعتصام، إلا أن هناك لمحة من الزمن جعلتني أبكي حينها، وهي عندما اجتمع المتظاهرون والقوات الأمنية معاً لسماعي، وبنهاية (النكتة) تعالت الضحكات معاً منهما في الوقت نفسه، هذا الموقف لم ولن أنساه أبداً، لقد كانت تلك اللحظة الأجمل في حياتي، لكوني قد عرفت حينها بأننا نخيل شموخ صامد بوجه العاصفة ونبقى هكذا كشعب واحد لا تفرقنا عاديات الدهر مهما اشتدت، وهذا هو معدن العراقي الحقيقي”.