ثورة العشرين بين ذاكرة التاريخ وشهادة الأبطال

#خليك_بالبيت

علي ناصر الكناني /

لم يكن أمامي وأنا أحاول الكتابة مجدَّداً عن الثورة العراقية الكبرى عام 1920 الا أن استعيد في ذاكرتي جوانب من لمحات ووقائع وأحداث هذه الانتفاضة الشعبية الجريئة والثورة الخالدة لعدد من رجالها وأبطالها الشجعان الذين كان لي شرف الالتقاء بهم قبل أكثر من أربعين عاما، بالاستعانة بما احتفظ به من أشرطة صوتية وثّقت بها أصواتهم رافقت يومها الهيئة التي شكّلها المتحف الوثائقي لثورة العشرين في النجف الأشرف الذي كان يديره يومذاك الباحث والمؤرخ الاستاذ كامل سلمان الجبوري، للقيام بجولة ومسح ميداني لبعض مناطق الثورة والالتقاء بمن كان ما يزال على قيد الحياة من رجالها والمشاركين بها..إذ كان الدافع من جهتي محاولة تقديم ملف خاص عنها ومجريات أحداثها بأصوات أبطالها ورجالها، لتتأكد هذه الأحداث بشهادة حية من المشاركين فيها.
الرميثة والشرارة الأولى لانطلاق الثورة
“لم يدر بخلد أحد من يوم الثلاثين من حزيران عام 1920 بأنّ مجموعة باسلة من الرجال لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين وهم يحملون أسلحتهم المتواضعة يقومون بمهاجمة مقر السلطة الانكليزية الحاكمة في تلك البلدة الصغيرة جنوبي الديوانية وتدعى الرميثة ليخلّصوا زعيمهم وكبيرهم الثائر شعلان أبو الجون من وسط قلعة وترسانة عسكرية حصينة مليئة بالمعدات والأسلحة القتالية المتطورة، ستكون تلك اللحظة بمثابة الشرارة الأولى لانطلاق وإعلان الثورة العراقية الكبرى ثورة العشرين التي امتد أوارها ولظاها ليشمل مدن وقرى العراق كافة .
ثورتا النجف والعشرين وحكم الإعدام
أول المتحدثين الذين التقيتهم يومذاك من المشاركين في الثورة كان السيد مطرود جاسم الكعبي الذي كان عمره لحظتها قد تجاوز التسعين عاما، إذ حدّثني بتفاصيل مثيرة وكثيرة عن اشتراكة أولا في ثورة النجف عام 1918 ومن ثم في ثورة العشرين، أمّا كيف حصل ذلك فيأتي الجواب على لسانه بقوله: بعد أن تكرّرت الاعتداءات والتصرفات المشينة من قبل الحاكم الانكليزي المدعو “وليم مارشال” وجنوده ضد أهالي النجف وبوضح النهار متحدين بذلك التقاليد والأعراف الدينية والاجتماعية الأصيلة لهذه المدينة المقدسة، وبعد التشاور والاجتماع مع زعماء وقادة النجف من رجالها جاء القرار بمهاجمة مقر الحاكم في السراي الذي يسمى اليوم ((خان عطية)) وقتله مع جنوده الموجودين هناك وكان ذلك عام 1918.
ويستعيد الكعبي عبر شريط الذكريات أسماء بعض من هاجم السراي من الرجال الشجعان، قائلا: لقد كان عدد المهاجمين ثلاثة عشر رجلا من بينهم الحاج نجم البقال وشمران العامري وصادق الاديب ومحسن أبو غنيم وآخرين.. ليتمّ بعدها قيام السلطات الانكليزية بفرض حصار جائر وظالم على النجف دام أكثر من أربعين يوما وتمّ إعدام هؤلاء الأبطال جميعا كما صدر حكم الإعدام بحقي، الا أنَّه تم إطلاق سراحي في اللحظات الأخيرة بعد أن توسّط لي أحد المراجع الدينية آنذاك وهو السيد محمد كاظم اليزدي، الذي أكد للسلطات الانكليزية الحاكمة بعدم مشاركتي بالهجوم على السراي، ثم لاتشرف بالمشاركة في ما بعد بأحداث ثورة العشرين الخالدة بعد إعلانها مع بقية من شارك من الرجال .
المس بيل ومحسن أبو طبيخ
وفي ناحية غماس كانت لنا وقفة مع ثائر آخر من رجال الثورة وأبطالها وهو السيد جعفر السيد حسن أبو طبيخ وعمره حين التقيته كان قد تجاوز السادسة والثمانين عاما وهو شقيق الزعيم الوطني المعروف السيد محسن أبو طبيخ ليستعرض لنا جانبا آخر من أحداث الثورة ووقائعها بقوله: بعد صدور فتوى الجهاد من المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى السيد الشيرازي ومراجع الدين الآخرين واجتماع الزعماء وشيوخ العشائر والسيد محسن معهم وهم كل من شعلان أبو الجون وغثيث الحرشان ومرزوك العواد وكنت أنا أقوم بتدوين وكتابة الأوامر والتوجيهات التي تصدر عنهم إلى المجاهدين وقادة الثورة الآخرين في بقية المناطق للوقوف بقوة وحزم بوجه الانكليز وإعلان الثورة ضدّهم ولعلّ اعتقال الشيخ البطل شعلان أبو الجون وتخليصه من السجن من قبل أبناء عمومته بعملية بطولية فذّة قد عجّل بإعلان الثورة وانطلاق شرارتها الأولى.. ومن بين الأحداث التي رواها لي السيد جعفر هي زيارة السكرتيرة الشرقية للمندوب السامي البريطاني المس جريدترود بيل إلى السيد محسن في غماس، كونه أحد الزعماء والقادة المعروفين في محاولة منها لاستمالته وكسبه لصالح الإنكليز وسياستهم الاستعمارية تجاه العراق، وكما يقول السيد جعفر إنّ هذه اللعبة القذرة لم تنطلِ على السيد محسن فقال لها وأمام الناس: إنّنا لا نقبل بغير الاستقلال واذا أردتم أن تكسبونا فاكسبوا الشعب أولا..
الباخرة فاير فلاي في شط الكوفة
في خضم تسارع الأحداث واشتداد وقع المعارك في معظم جبهات القتال التي من بينها معركة الرارنجية التي تمكّن الثوار فيها من الاستيلاء على أحد المدافع التي تستخدم في قصف الثوار ومناطقهم وجلبه معهم إلى الكوفة بعد إصلاحه ليتم استخدامه كما يقول الحاج محمد حمزة الزكرتي الذي كان الأكبر عمرا من بين الذين التقيتهم، إذ بلغ عمره مئة وعشرين عاما، مستعرضا محطات بطولية أخرى من المعارك التي شارك فيها والتي من بينها كما يقول؛ معارك الفاو عام ١٩١١ والشعيبة خلال الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤ وفي الثورة العراقية الكبرى عام ١٩٢٠ إضافة إلى مشاركتي في مهاجمة الباخرة فاير فلاي التي كادت تؤدي بي إلى الإعدام بعد إلقاء القبض عليّ من قبل السلطات البريطانية، لولا تدخل الوجيه المعروف الحاج أمين كرماشة الذي أنقذني بادعائه بأنّني مجنون، فنصحني بمغادرة الكوفة والعودة ثانية اليها بعد هدوء الموقف.
شاعر الثورة ومهوالها
في مكان آخر كنّا على موعد مع الشاعر المعروف عبد السادة الكصاد الذيكان مهوال الثورة وشاعرها، إذ إنّ الأهازيج الحماسية والهوسات الشعبية التي كما يقول: كان الشعراء والمهاويل والثوار يصدحون بها في ساحات القتال إلى جانب الشاعرات من النساء لإثارة حماس المقاتلين والشدّ من عزيمتهم وهممهم، مؤكداً أهمية الدور البطولي المثير للمرأة العراقية وشجاعتها الفائقة ومن بينهن حضية العارضية وسكينة العسل وفاطمة الموسى، مستذكرا موقفا بطوليا لواحدة فقدت ابنها أثناء المعركة فنادت بأعلى صوتها.
مفطوم اعله سركيها
أخيرا لا بدّ من القول إنّ هناك العديد من اللقاءات والأحداث والوقائع المهمة التي شهدتها مناطق الثورة في العديد من مدن العراق كبغداد وديالى وتلعفر والأنبار والحلة وغيرها لم يأتِ ذكرها جميعا بحكم المساحة المخصّصة لهذا الموضوع، فتحية إكبار وإجلال لهذه الثورة وثوارها في ذكراها الخالدة والمتجدّدة عاما بعد عام.

النسخة الألكترونية من العدد 362

“أون لآين -5-”