مقداد عبد الرضا /
عن الرحلات اتحدث, رحلات الحروب, رحلات الالم والفزع, الخيانات, ثم رحلات الجوع والقهر, رحلات الاستلاب والاندحار, الانسحابات الكثيرة والمخاوف, جرن الدم الذي لم يتوقف, كل هذه الالام والتي ربما لاتعادلها الآم اخرى في العالم, الاتصلح ان تكون افلاما تعطي جرعة من الحب والسلام, الطمانينة والهدوء؟ اننا في زمن قد يستطيع فيه المرء ان يسجل اى رحلة من الرحلات المذكورة لو انه بحث بدقة عنها, لو انه التاع وتألم واحب هذه البلاد, هذه البلاد المكدودة منذ زمن, رحلات البحث لاتكلف اكثر من حب الوطن.
وداعا ثيو, يوم فاضت روحك الى الداخل, في ذلك العام كانت اليونان تحت حكم الدكتاتور ميتاكساس, غزا الايطاليون اليونان, في الغزو اما صراخ او صفير, السالب الذي ظل عالقا في المخيلة مشهد الجنود الالمان وهم ينسحبون من اثينا تماما كما سترسمها فيما بعد في فيلم “رحلة الى كيرا”, واضحا كان يسكن في مخيلتك تلك المراحل من الفزع واللهو والتمرد قبل ان يرتطم جسدك ليلة امس بدراجة ارعن وانت تصور فيلمك الاخير “عالم خفي” ليلة الرابع والعشرين من شباط في العام 2012, كان على ذلك الولد الارعن ان ينتظر قليلا حتى تفصح لنا ماهو هذا العالم الخفي, في كتاب من الحجم المتوسط ويقع في 390 صفحة قام باعداده وترجمته الاستاذ امين صالح واصدرته دار الانتشار العربي, هذا الكتاب يسلط الضوء على حياة واحد من ابرز مخرجي العالم واكثرهم دقة ومعرفة هو اليوناني ثيو انجلوبولس, هي البدايات ومحاولة فهم القانون لكن المشكلة هي كيف يمكن الدفاع عن الناس ؟ تلك علة كبيرة لذا هجر القانون واتجه الى السوربون لدراسة الادب, يظل هاجس السينما يراوده كامراة تحلق بفستان واسع, عند المقهى القديم اعتاد رجلان كهلان ان يجلسا ويتطلعان بشغف الى المارة وبخاصة النساء تلك الرياح الحميمة التي تكشف لوحات بالوان تثير الاعجاب, الاجساد ربما تشيخ لكن الارواح تظل تهفو للجمال, في احد الايام يسال الاول الثاني الى متى نظل على هذا الحال فيجيبه الثاني باصرار, حتى النهاية, انتهى ادب السوربون وظل هاجس السينما يرف في مخيلته, اذا معهد الايدك, (لم اتخرج من معهد الايدك بل تم طردي عند نهاية العام الاول والسبب المشاكسة وعدم الخضوع للضوابط, ماهي الضوابط التي يمكن ان نخضع لها)؟ هل نجلس ونستمع ونشاهد دون اسئلة او احتجاج؟ عملا بنصيحة المدير بعدم البداية بفيلم طويل انما تكون التجربة ناضجة ومركزة اكثر حينما يكون الفيلم قصيراً, جان روش اول الحلقات, وفيلم على النفقة الخاصة, اصحابه السابقون في معهد الايدك كل حسب تخصصه, يعمل مرشدا للنظارة في فرنسا فقط من اجل ان يشاهد اكبر كمية من الافلام, كل تاريخ السينما انذاك, فيلمه المهم في العام 1972هو “ايام 36”, من ملابسات الواقع استلهم الموضوع واثناء خراب العالم وانشغاله بالحروب, سجين له ميول مثلية, اودع السجن بسبب جريمة قتل لسياسي نقابي حينما يزوره رجل من البرلمان يضع المسدس المهرب في صدغه ويتخذه رهينة مقابل الافراج عنه, انه فساد لرجال جاؤوا بعد الازمات, الحروب لذلك تجدهم فاسدين, هنا يعلن المخرج عن هويته ومشروعه السينمائي الذي سيستمر حتى رحيله, اللقطات الطويلة التي تستمر احيانا لعشر دقائق وهذا ماجعل البعض يتهمه بتاثره بالمخرج الهنغاري ميلوش يانكو في استخدامه اللقطات الطويلة (يانكو ليس الوحيد الذي عمل في افلامه بلقطات طويلة, انه توظيف قائم منذ بدايات السينما)
(في بعض افلامه الرحلة تبدو واضحة وجلية من العنوان الرئيسي للفيلم, في “رحلة الى كيرا”, هناك جزيرة لايمكن بلوغها ابدا لعلها تشبه تلك الرحلة التي تاثر بها ثيو والتي قادها تاركوفسكي في فيلمه الرائع ستالكر, ولعله يقود ذلك الشيوعي العجوز العائد من منفاه في الاتحاد السوفيتي فلا يجد وطنا صالحا للعيش في فيلم “رحلة الى كيرا”, في فيلم “منظر في السديم” ليس فقط عن طفلين يبحثان عن والديهما, هي رحلة اكتشاف الحياة, المكان والاذى الذي يسببه, انه رحلة نتعرف فيها على الحياة وماذا يمكن لها ان تمنحنا, في فيلمه الرائع والمهم “تحديقة يولسيس” هناك حوار يقوم بين البطل ثيو الذي يعبر الحدود ليصل الى امم البلقان, اعتدت ان احلم بان هناك نهاية للرحلة, اليس هذا غريبا؟ عندما خلق الرب الكون فان اول ماخلقه هو الاسفار, هناك امتداد للرحلة في المثيولوجيا اليونانية ولعل حكاية اكاممنون ويولسيس دليل على عودتهما من الحرب والبحث عن الوطن, البيت) ثيو لايخضع للضوابط المعروفة من السرد, انه حينما يروم انجاز فيلم له فانه لايتبع الخط الذي يتبعه الجميع, من البداية وحتى النهاية, انها فقط صور لاتخضع للتسلسل, ممكن ان تكون هناك صورة تاتي في المنتصف اضعها ثم ما البث ان اضع صورة اخرى في النهاية, هذا اللانظام في وضع السيناريو يضعه خارج المألوف ويمنحه حرية كبيرة في الاعداد, جمل قصيرة وقليلة, نادرا مانشاهد حوارا في افلامه, الهنغاري بيلا تار وهو يشتركان تقريبا في هذه الصفة, الجمل القصيرة والقليلة, عن الموسيقى وعلاقته المهمة مع المؤلفة ايليني كرندورو مؤلفة موسيقى اغلب افلامه يقول(علاقتي باليني رائعة وقريبة جدا, في البداية احكي لها السيناريو وتقوم هي بتسجيل ما اسرده لها, عادة لاترغب بقراءة السيناريو انها فقط تتبع نبرات صوتي وانفعالاتي اثناء الحديث, بعد الحوار تذهب وتجلس لوحدها وتصغي بدقة الى كلامي معها ثم تقوم بالارتجال, تجلس الى الة البيانو وتعزف وحينما يعلق شىء ما بأذني اطلب منها ان تعيد المقطع مرة اخرى وحينما نصل الى النهاية اجد اننا توصلنا الى مسار صحيح, الاكورديون في فيلم “تحديقة يولسيس” كان بطلب خاص مني, وما اروع ذلك المشهد الذي ابدا لن تغادره الذاكر, تمثال لينن مطروح فوق العبارة على نهر الدانوب, هي وانا نحاول ان نخلق نزعا من الحساسية الموسيقية للفيلم الذي انوي انجازه، في كل حياته في صناعة الافلام انجز ثيو انجلو بولس افلاما قليلة لكن على هذه القلة فانها شكلت زمنالايمكن للذاكرة ان تغادره او تنساه على الاطلاق, افلامه هي: اعادة اعمار1970, ايام 36، 1972, الممثلون الجوالون1975, الصيادون1977, الاسكندر العظيم1980, رحلة الى كيرا1984, مربي النحل1986, منظر في السديم1988, خطوة اللقلق المعلقة1991, تحديقة يولسيس1995, الابدية ويوم واحد1998(جائزة كان الكبرى) ثلاثية المرج الباكي 2004, غبار الزمن 2008.