عبد الزهرة زكي/
في حديقة مستشفى الجوادر تعرفت على بعض أصدقاء الأدب والفن والثقافة، وفيها ترسخت علاقتي بأصدقاء آخرين منهم.
من الطرف الأقصى من المدينة كان يأتي غازي الفهد وعدنان العيسى إلى الحديقة لنتحاور ونتبادل القصائد الجديدة والكتب والأحلام. أعدم غازي ومات عدنان بما يشبه الاعدام، وقبلهما أعدم صباح جواد الربيعي، صديقي الذي كان يعمل على أن يكون كاتب قصص قصيرة،
ومات هادي السيد الذي وأد بعدميته الفنان التشكيلي الماهر الذي كان فيه، فيما هاجر عطية عيسى وهاني هليل وهما من أبرع القراء وأمهرهم في خلق ذات حصينة مترفعة عن هوى الكتابة والتأليف، ورمى المرض بجاسم أحمد في زوايا النسيان، لم أعرف في حياتي من هو أشد منه إخلاصاً للكتاب والمعرفة، أكثرنا مواظبة على الكتاب المدرسي لكن كان من النادر أن تصادفه وليس معه كتابان؛ أحدهما منهج دراسي والآخر خارجي، في المرحلة المتوسطة تعرفنا من خلاله على الأعمال الكاملة لديستويفسكي بترجمة منير بعبلكي، كما أظن. كان مواظبا على اقتناء مجلة العربي شهرياً طيلة المرحلة المتوسطة قبل أن ينفض عنها بمرحلة تالية تحول فيها إلى مجلات أكثر جدية وإلى الاهتمام بالفلسفة؛ ببريجسون ونيتشه وكانط وكيركجارد وشوبنهاور من بعد افتتان بفؤاد زكريا.
مؤيد جبار هو الآخر من أصدقاء الحديقة، وهو غريب في سرعة اتمام قراءة أضخم الكتب وأعقدها على طلبة مراهقين، مؤيد كان مصدراً مهماً لكتب الوجودية والعبث والعدمية. يأتي إلى الحديقة ونتوهم أنه يقرأ في كتاب جغرافية أو تأريخ أو أحياء من المنهج الدراسي حتى نكتشف أنه يقرأ، وهو سائر على العشب في ظهيرة قائظة، رواية لكامو أو كافكا أو هيرمان هيسه. ولم ذلك بالغريب على طالب في المرحلة المتوسطة أو بداية الثانوية.. الأمر نفسه يقال عن سالم رشك وهاني جبر وعبدالزهرة المنشداوي وعبدالزهرة كاظم، اهتماماتهم مبكرة بالقراءة وبمجالات فكرية وأدبية مختلفة، قبل أن يلتحق بهم أحمد حميد وجبار أحمد وحسن خلف وخالد غلام، حيث كان بعضهم معنيا بالمسرح إلى جنب توفيق التميمي وجليل عودة (يرحمه الله)، ومعهم نصيف فلك وحميد المختار قبل ان يختطفهما الأدب.
وفي الحديقة، وخلال المرحلة الثانوية، كان علي جاسم منشغلاً بفلسفة العلم، أذكر أنه كتب وحتى ترجم أشياء صحفية عنها. لقد تعلم الانكليزية بجهد شخصي وبدأ يقرأ بها. ومبكراً أيضاً اختص عباس جاور بالنقد التشكيلي، فيما ظهر من الحديقة فجأة نجم سينمائي، ومع أول دور سينمائي له أسندت له البطولة، إنه الصديق فيصل حامد.
ليس بعيداً عنا، وفي الحديقة نفسها كان هناك من هم أكبر منا.. كان سامي المطيري يتقدمنا بأعوام قليلة وكان قد بدأ النشر مبكراً ككاتب قصة، لقد كنا نراه نجماً، وكذا الحال بالنسبة لعبد جعفر، فهو أيضا كتب ونشر القصة مبكراً وسعى إلى أن أكون أنا كاتب قصة مثله فخذلته لكني أفدت كثيراً من ذلك الاهتمام الأولي بالسرد. استعرت منه كثيراً من كتب الأدب والمسرح في تلك السنوات. أكبر منا أيضاً روضان بهية الذي كنا نعرف أنه خطاط ماهر وهو طالب مجد، والدكتور روضان الآن من أعظم خطاطي الحرف العربي في العراق والعالم.
كتب داود سالم القصة القصيرة، قرأنا قصته الأولى (الألوان) تحت أشجار اليوكالبتوس في الحديقة، وأدهشنا بمهارته فيها التي كانت تفوق أعمارنا.
الصديق كريم العراقي كان يأتي إلى الحديقة متمتعا بنجومية مبكرة، إنه شاعر القصيدة الشعبية التي بدت أكثر قرباً إلى حياة المدينة ولغتها ويومياتها واستعاراتها، ثم هو أكبر شعراء الأغنية العراقية خلال العقود المتأخرة. بينما رحيم العراقي شقيقه الأصغر، وهو من أطرف رواد الحديقة مرحاً وخفة دم وسرعة بديهة، نجح في أكثر من مجال صحفي وفني كان فيه.
قبل أعوام قليلة استشهد الدكتور محمد كريم بتفجير ارهابي. الدكتور محمد كان واحداً من أشطر طلاب الحديقة، أكمل دراسة الطب في جامعة البصرة مع زميله سعدون كاظم، سعدون أعدم قبل إكمال دراسته الطب بأيام، وكان كلاهما رسامين.. كثيراً ما كنت في الحديقة أتصفح كتاب أي منهما يكون معي، ثمة تخطيطات بالرصاص والقلم الجاف حيثما يكن بياض في صفحات الكتاب.
أبو الهيل راضي ما زال في مدينته الأولى، ليس بعيداً عن حديقة المستشفى، يمارس مهنته طبيباً.. كل من كان في الحديقة من جيلنا يتذكر دأب أبو الهيل والإرهاق الذي كان يبدو عليه جراء اجتهاده من أجل الظفر بمعدل يؤهله لدراسة الطب وتوفق في ذلك.
كان الأكثر غرابة بين الجميع هو رشيد حميد.. كان في الإعدادية ويحرص على أن يقرأ كل شيء يتاح له عن نظرية النسبية وعن انشتاين والكثير من العلماء الآخرين. إنه الوحيد في الحديقة الذي نظل نصغي إليه باهتمام وتركيز وهو يشرح لنا أعقد النظريات بأبسط التوصيفات والمفاهيم. مزاج غريب وسط أمزجة يحكمها الأدب والفن والسياسة والفلسفة. ما زلت أتذكر ضحكته وهو يواجه بها مزاحنا بالتندر عليه، وكان مزاحا لا يخفي إعجابا بمعرفة زميل هو بعمرنا ومثلنا طالب ثانوية. أكمل رشيد دراسته في ثانوية الكفاح في النهضة، ومنها إلى موسكو لدراسة هندسة الطائرات هناك. كم كانت سعادة أبيه الشرطي الطيب به عظيمة!
قبل أيام كنت حاضراً في مناقشة طالب دكتوراه في واحدة من الكليات ببغداد، وفوجئت أن أحد أفراد أسرة الطالب جاء إليّ وهمس بأن العميد سيحضر بعد قليل المناقشة ويرجوك الانتظار لحين وصوله. لم أكن أعرف العميد، ولم يتضح لي داعي طلبه مني الانتظار. لكن ما إن وصل إلى القاعة حتى تقدم نحوي مبتسماً وسعيداً، وهو يقول: (أستاذ أنت ما تعرفني. أنا من الجيل اللي بعدكم بحديقة الجوادر.. استلمنا الحديقة منكم لما رحتوا أنتم للجامعات).
كان هذا البروفيسور واحدا من عشرات الأساتذة الذين وهبتهم الحديقة للجامعات ليتبأوا فيها مراكز علمية كبيرة، إنهم من جيلنا ومن جيل قريب منا ولكنه جاء بعدنا.
ربما كان ذلك هو جيل الحديقة الأخير.
لقد جاءت الحرب الثمانينية وحطمت كل شيء.
تحطمت العائلة، وهذا هو الأخطر، وشاع الخوف.. وبدأ النظام التعليمي بالانهيار.
اختفت الحاجة الحقيقية إلى الكتاب.
كان في كل بيت فقير شيء اسمه مكتبة الولد، مهما كانت كتبها قليلة ومهما كانت سطحية أو غير مجدية إلا انها كانت تؤسس لتقليد تحترم بموجبه الثقافة والمعرفة، ويكون غيابهما عن اي فرد أو بيت مجلبة للخجل.
تغيرت الحياة حتى بات الكتاب وحامله مجالا للسخرية والتندر. بتلك الأيام، يا لتلك الحديقة.