عبد الجبار خلف/
سألت مطرب المقام العراقي حسين الأعظمي: هل يمكنك أن تتذكر لي يوماً من أيام عمرك له وقع مميز في نفسك ولم يزل على طرف الذاكرة، التفت اليّ وبلمح البصر قال: إنه عصر يوم الجمعة الموافق 23/3/1973، فهو اليوم الحقيقي الذي تقرر فيه مصير حياتي.
لأجرب حظي
وحين طلبت منه أن يشرح لي بالتفصيل قال: نبَّهني أحد أبناء محلَّتي هو السيد فاروق قاسم، بأن هناك مقهى جماهيرياً تؤدى فيه حفلات المقام العراقي في عصر يوم الجمعة من كل أسبوع، داخل بناية المتحف البغدادي، وأن متعهد هذه الحفلات، أو الشخص المستأجر لهذه المقهى، هو مطرب المقام العراقي حمزة السعداوي، ما شجعني للذهاب إلى هذا المقهى لتجربة حظِّـي فيه، بالرغم من أن السيد فاروق كان قد ذهب من قبل إلى هذا المقهى ولكن دون أن يُسمح له ولا لغيره من الشباب بالصعود إلى المسرح لحد هذا الوقت الذي كان يشجعني فيه!
وأضاف: ذهبتُ معه إلى مقهى المتحف البغدادي عصر يوم الثلاثاء 20/3/1973. وتعرَّفنا على بعض الحاضرين والهواة وغيرهم من رواد هذا المقهى، دون أن نحظى بحضور السيد حمزة السعداوي! وفي يوم الخميس 22/3/1973، أي بعد يومين، ذهبتُ مع السيد فاروق مرَّة أخرى إلى المقهى، وفي هذه المرَّة التقينا بالسيد حمزة السعداوي وتعرفت عليه شخصياً لأول مرَّة، علماً بأنني لم أكن قد تعرَّفت على أي فنان قبل هذا التاريخ، فيما أعتقد، وربما أستطيع القول أن حمزة السعداوي كان أول فنان تعرَّفت عليه شخصياً. وهكذا قدَّمني إليه بعض الحاضرين: الاخ حسين جاء منذ يومين، ويبدو انه يرغب في قراءة المقام العراقي، فالتفتَ اليَّ السيد حمزة ودار بيينا الحوار التالي:
ـ ماذا لديك لتسمعنا من مقامات؟
ـ أي مقام تريد؟
فوجئ السيد السعداوي بجوابي وأردف قائلاً:
ـ هل تعرف غناء مقامات كثيرة؟
– أعتقد ذلك.
ـ أين تعلمتها؟
– من أسرتي وبيئتي وجهاز التسجيل الصوتي.
– إذن أسمعنا مقام المخالف.
فاجأت نفسي
عندها أسمعته مقام المخالف كاملاً دون أي نقص أصولي تقليدي، ودون أية إضافة أو تعليق منه أو من الحاضرين! فأبدى استغرابه وإعجابه، فضلاً عن بقية الحاضرين الذين يستمعون اليَّ لأول مرَّة. وقال لي بالحرف الواحد: من أين أنت؟ قلت: من الأعظمية، قال: هكذا إذن! فالأعظمية مدينة مقامية تراثية فيها خزين هائل من هواة المقام العراقي. وما عليك، يا أخ حسين، إلا أن تأتي عصر الغد لأقدمكَ إلى جمهور المتحف البغدادي، لتكون مفاجأة حفلات مقهانا البغدادي هذا. يتابع الفنان الأعظمي: في عصر اليوم الثاني، الجمعة 23/3/1973، كنت متوسطاً فناني مسرح مقهى المتحف البغدادي لأول مرَّة في حياتي. وطبيعي لم تجر أية بروفة على مقام المخالف مع أعضاء الفرقة الموسيقية، بل لم يسبق لي أن غنيت مع أية فرقة موسيقية، فكان وجودي بين فناني المتحف البغدادي عصر ذلك اليوم أمراً مفاجئاً لي وللجمهور الحاضر، حالة لم يمر بها أي فنان من قبل. جرى كلّ شيء دون تهيئة واستعداد ولا أية تجربة، لم أدرك نفسي إلا وأنا بين أعضاء الفرقة الموسيقية أمام الجمهور الحاضر!
لقبي الجديد
يسترسل الأعظمي: على كل حال، وصلت إلى بناية المتحف البغدادي، وما ان رآني المرحوم حمزة السعداوي حتى ناداني بالجهاز المكبر للصوت للصعود إلى المسرح. لحظات قليلة مرت فوجدت نفسي جالساً وسط المسرح، عن يساري مجموعة من هواة مطربي المقام العراقي، وهم طارق القيسي وصلاح السراج وعبد الله المشهداني ومحمد العاشق ونجم عبود وحمزة السعداوي، وعن يميني جلس أعضاء الفرقة الموسيقية وفي مقدمتهم عازف القانون عبد الأحد جرجيس وهو والد أشهر عازف إيقاع في العراق (سامي عبد الأحد) ثم عازف العود محمد سعيد وعازف الكمان يونس وعازف الإيقاع بديع، وأتذكر أن عريف الحفل كان قد قدَّمني إلى الجمهور بهذه الكلمات :(والآن مع المطرب الشاب الجديد المفاجأة، حسين اسماعيل الأعظمي، في مقام المخالف)، في الحقيقة أثارني هذا التقديم من قبل عريف الحفل، فقد انتبهت لأول مرة، إلى اللقب الذي نعتني به – الأعظمي – فلم أكن قد سمعت أي شخص يناديني به من قبل، فهذه هي المرة الاولى التي يقترن اسمي بهذه الكنية.
وختم الأعظمي كلامه بالقول: وهكذا فإنّ يوم 23/3/1973، هو (يوم من عمري) لأنه اليوم الذي تقرر فيه مصير حياتي، حيث بدأتُ من هذا المقهى، وبقيتُ أذهب إليه غالبية الأسابيع وأغني فيها المقامات العراقية حتى بعد عام 1973 واستمر بي الأمر في غناء وموسيقى المقام العراقي حتى يوم الناس هذا.