كريم راهي/
بعد فصل شركة (دايوو) الكوريّة الجنوبية مؤخراً لإحدى عشائر البصرة، صار حديث الشارع يجنح للكثير من السخرية عن النظام العالمي ما بعد الجديد، وعن تعاظم دور مجلس (الشيوخ) العراقي على حساب نظيره الأمريكي، في إقامة الحدود الرادعة على الشركات متعدّدة الجنسيّات.
ففي ظل التخبّط السياسي والفوضى العارمة التي تعمّ البلاد، وغياب واضح لدور القانون، وشيوع الرشاوى، وغلبة ذوي رؤوس الأموال على أصحاب الحق؛ حدث (انتخاب طبيعي) مجتمعي، صار حلّ النزاعات بموجبه يستند إلى قوانين كان قد تم تحييدها لعقود طويلة من الإنضباط الإجتماعي، وحدثت بذلك هجرة معاكسة للقيم الإجتماعية، وحلّ (تريّف المدن) بدلاً عن (تمدّن الريف)، وعادت إلى التداول مصطلحات مُحدّثة للفصل والأخذ بالثأر مثل: الدكّ (رمي بيت الجاني بالأسلحة الناريّة) وشد الراية والعطوة ومطلوب دم وما إليها، بعد أن كان غبار النسيان قد طمرها لزمن. وصار لزاماً على المدافع عن ماله وعرضه أن يدفع ديّة السارق فيما لو تسبب له بأذى جسماني، عنك قتله، وحادثة الناصرية التي دهس فيها القطار سارقاً فارّاً لاحقه صاحب الدار، متداولة في المجالس.
ولا حاجة بنا لإفاضة الحديث عن متاعب أطباء ردهات الطوارىء، الذين تشاء طوالعهم السيئة وفاة أحد المرضى بين أيديهم أثناء محاولات إنقاذه من إطلاقة نارية مميتة أو حادث سير عنيف. فقد تفاقمت ظاهرة إجبار مثل هؤلاء الأطباء على دفع (ديّة القتل) حدّ أنها دفعت مسؤولي وزارة الصحّة مؤخراً لأن يعمدوا لتوقيع معاهدات شرف مع زعماء العشائر المتنفّذين بغرض الحدّ منها.
ووصلت تلك الهجمة الشائنة إلى درجة لجوء أديبين معروفين، للتهديد بفض نزاع وقع بينهما، في مجلس عشيرتيهما، وليس بعيداً عن الأذهان، ما حدث لنائبين في البرلمان قبل أشهر من تهديد باللجوء لمجلس عشائري لفضّ نزاع سياسي وقع بينهما.
وبعد أن كانت أبراج المراقبة في المطارات هي التي تحدد حركة الطائرات، صارت إطلاقات (الدوشكا) أو (البي كي سي) في عراضات القبائل المتاخمة للمطارات، هي التي تقوم بهذا الدور، كما صار عدد الأصوات التي تدعم المرشح البرلماني من قِبل أفراد عشيرته، هو الذي يحدد مكان كرسيّه في مجلس النواب. ولربّما بقيت تنافسها في ذلك، حصص العشائر الحزبيّة.
لقد شاعت حوادث الإرتماء المتعمد أمام السيارات بغية الحصول على ديّة الدهس، وحوادث رمي (السويجات) بين المتصادمين مصحوبة بعبارة “جيب عمامك وتعال أفصل” وغيرها من الإبداعات التي (تتفتّق) عنها العقول العراقيّة مع كل جديد.
وبرغم عدم رضوخ المرجعيّة للواقع الجديد، وتأكيدها على حل المشاكل العشائرية بالمراضاة، وتحريمها فرض المبالغ الطائلة، فقد لجأ العشائريون، بساداتهم وأجاويدهم، إلى حيل (شرعيّة) تتيح لهم الإلتفاف على ذلك، وبقيت المبالغ المتفق عليها على حالها التي سُنّت بها في لائحة كل عشيرة، وهي (السانية)، كما يصطلح عليها الفرات أوسطيّون، أو (السنينة) كما تطلق عليها عشائر الجنوب.
وعلى ذكر الأجاويد، فهم الوجوه الإجتماعية التي يكون دورها فاعلاً في حسم النزاعات، فقد ظهرت طبقة جديدة من المنتفعين امتهنوا هذا الدور – ببراعاتهم وحسن اقتناصاتهم لهفوات المقابل الكلاميّة – وصاروا يتكسّبون من ورائها.. وهكذا ظهرت تسعيراتهم الجديدة للصفعة والركلة والإصابات الجسمانية بشتّى درجاتها.. وحتّى (البصقة).
• من طرائف ما يُروى، أن أحدهم فُجع بدهس خمسة من حميره، وفي جلسة الفصل، وبعد الّتي والُّتيّا، تم استيفاء ديّة حمارين منها فقط، بعد أن تنازل المجني عليه عن ثلاثة، قائلاً لصاحب العطوة:
– عمّي، الزلمة اللي سحك ولخاطركم طيّحناله مطي، وهذا الشيخ مطي، وهذا مطي عشه الإجاويد، وفضّوا رايتكم والله وياكم!
• حلم أحدهم أنه سمع ملاكين يتحدثان قربه عن أنّه ليس المعني بقبض روحه وإنما فلان الفلاني، فأرشدهم وهو في غاية الفزع إلى منزل هذا الشخص في الشارع المجاور، وعند الصباح سُمع الصياح والعويل في المنزل إيّاه وأقيم سرداق العزاء، وفي مجلس الفاتحة تحدّث هذا الرجل عن حلم الليلة الفائتة، فما كان من أهل المتوّفي إلا ان طردوه من مجلسهم، وطالبوا بفصل عشائري لأنه أرشد عزرائيل إلى فقيدهم.
• دخل جرذ من منزل إلى منزل مجاور، ففزعت لرؤيته ابنة صاحب المنزل، وسقطت من شدة خوفها وانكسرت ساقها. فقام والدها بقتل الجرذ في الحال وتمّ نقلها للمستشفى. أقيم مجلس الفصل بعد ذلك، وغرّم صاحب المنزل الذي تسلل منه الجرذ مبلغاً كبيراً بحجّة أنّه كان يؤوي الجرذ (العايل). لكن، وبحنكة خبراء الفصول العشائرية، أقيم في اليوم التالي مجلس فصل مجاور، تم بموجبه أخذ ديّة قتل ضعف المبلغ إيّاه من والد الفتاة، قاتل الجرذ العائد لعشيرتهم.
• ورد اتّصال لسائق سيّارة أجرة نوع (سايبا)، ويبدو أن المتّصل على الطرف الآخر سأله عمّا يفعل، فأجاب هذا: “يعني شسوّي؟؟ غير جاي افترّ بهاي السايبة!”، ولما كان من يجلس في المقعد الخلفي زبونة من الوزن العشائري الثقيل، طلبت منه بعد أن أوصلها المنزل أن ينتظر لتأتيه بمبلغ الأجرة، وبدلاً من أن يتسلم أجرته المتفق عليها، دفع صاحبنا أضعاف أضعاف المبلغ في فصل عشائري عقد بسبب عبارته “جاي افترّ بهاي السايبة!” التي اعتبرت المرأة أنها هي المقصودة بها!
• أصيب أحدهم بمرض جلدي، وصف له أصحاب الطبّ البديل علاجاً له مُدّعين أنّه ناجح ومُجرّب، وكان على الرجل المبتلى، وفقاً للعلاج، أن يستلقي على دكّة (المغيسل) ويُدلّك بالليفة من قبل المغسّلجي نفسه، وفعلاً فقد فعل صاحبنا كما نُصح، وذهب المغسلجي لجلب ليفة جديدة للغرض إيّاه، وفي هذه الأثناء جيء بجنازة وصار أصحابها يبحثون عن صاحب الشأن، فأجابهم الرجل المستلقي على قفاه أنّه سيأتي بعد قليل. وبالطبع فقد فزع حملة الجنازة، وألقوا بالتابوت وهم يصرخون من هول الميّت الذي صار يتكلّم. وزلّت قدم أحدهم به فشجّ رأسه ومات في الحال، وصارت الجنازة جنازتين. بعد أيّام، شُدّت الراية، وعقد اجتماع الفصل، ودفع الرجل المبتلى بالأكزيما ديّة المفزوع الذي مات بسببه، وانتهت بذلك، واحدة من القصص التي تفوق في غرائبيتها كلّ ما كتبه أتباع موجة الواقعيّة السحريّة من أدباء أمريكا.. التينيّة واللاتينية مجتمعين.