جاسم عاصي /
يُلزم الفنان (ناصر عسّاف) نفسه باقتناص اللقطات المؤثرة في الحياة اليومية، فقد أنجز مجموعات من الصور الفوتوغرافية، شمل فيها ظواهر اجتماعية عدة، لعل نماذج الأرصفة واحدة من الاهتمامات المهمة بينها، كما اهتم بشريحة تنتمي إلى فئة الرصيف، وهم نماذج المطرودين من مجالهم في الحياة. وتتشعب قيمة الطرد، أي أسبابه، لكنها في النتيجة تنتمي إلى الإهمال الاجتماعي. إشارات إلى متن الحكاية
هذه الشريحة تطبّعت على مكان الطرد، وعدّته بحكم الألفة معه دار البقاء، ونماذج (العسّاف) اتخذت لها مكاناً قصياً نسبياً، فهو ليس شرقياً ولا غربياً، بل هو ضمن فضاء مفتوح، افترض المطرود أنه دار استقرار لوجوده، فعمل على تأثيثه بعد تشييد معالمه من نفايات البيئة، وحكاية النموذج هذا كانت لها مسببات موضوعية للطرد، فهو لم يختر تغييب سيطرة العقل، وإنما فرضته حالة استطاعت أن تُرحّل سيطرته على فعالياته، فاضمحلال سيطرة العقل على فعاليات الجسد، كانت خير ملاذ اختاره النموذج كي يأوي إليه.
ولعل النموذج هنا ظهر على حالات ترتبط بالفضاء النفسي، لأنه أساساً لم يهمل الجسد، بقدر ما أعاره أهمية وقيمة، والواضح أنه ظهر في الصور نصف عارٍ معتزاً بجسده تماماً. تقول الحكاية المرتبطة بالأجزاء التي تُظهرها الصور إنه بدا مستقراً في اختيار البقعة التي يسكنها، ودأب على تجميع ما من شأنه تجميل وتأثيث المأوى. فكان المكان وكان الزمان، فهو كالإنسان الأول حين اختار الكهف؛ منزل النموذج هذا مركّب من مواد متروكة، تركتها ذائقة الإنسان، لأنها غير مفيدة، والنموذج هو الذي جعلها مفيدة بحكم وظيفتها الجديدة. إذاً، كان الإنسان هنا يدرك ضرورة بذل الجُهد لتحويل وظائف المهمل، وهذا له علاقة بالعقل أساساً في ما يخص الاختيار الأمثل للأشياء. وهذا بطبيعة الحال نوَّع التعبير عن فعالية العقل، وإن كانت النظرة الاجتماعية إزاءها مختلفة، وتوصيفها بالجنون والخبل والضياع، لكن النموذج خلق من ضياعه وجوداً جديداً، يستمرئ وجوده الذاتي، ويألف جديده، لأنه يوّفر له الأمان من تصرفات وإيذاء الآخر، هذا هو متن الحكاية التي حقق رويها فوتوغرافياً الفنان، محققاً بذلك منجزاً يُضاف إلى ما حققه من قبل وهو يرصد حياة المطرودين.
اختيار اللقطات
تنتمي مجموعة الصوَر التي التقطها الفنان إلى فن البورتريه، وبهذا التوّجه كان لزاماً عليه أن يتخذ من اختيار زاوية اللقطة الأهم في رصد حياة النموذج الذي تميّز بمزاج فرضته عليه طبيعة الغياب والطرد المتشعبة الأسباب. فهو لا يفكر كإنسان سويّ في نظر الآخر، لكنه سويّ بمنطق وجوده وقناعاته الذاتية، فمرضه فرض عليه قناعات رافقت ونمت ضمن وجوده الإنساني، من هذا تكون تقلبات مزاجه حالة يفرضها عليه غياب تعادل منظومته التي تُعيّن الأشياء وتوّضح صورتها له. فهو بهذا عشوائي التصرف، وربما عدواني دفاعاً عن وجوده. من هذا يتوّجب النظر إلى أي نموذج من اللقطات بمنظار نفسي مختلف، أي أن نظرة الفاحص غير النظرة الشائعة، والخاضعة إلى مكون اجتماعي منتظم، لأننا بصدد رصد المعنى الذي يُحققه البورتريه حصراً، باعتباره فن دراسة الشخصية عبر كل مكوّنات القسم العلوي من الجسد، والوجه حصراً، الذي هو مركز العطاء النفسي للإنسان، بما يعكسه من مفردات التعبير السيكولوجي، إذ تدفعه كل التصرفات الجسدية بنتائجها نحو تشكيلة تقاسيم الوجه، فالمتحقق الفني للقطة مرتبط جدلياً بالطبيعة الإنسانية، فنحن إزاء معنى لظاهرة ومعنى للفن. فهما متلازمان تماماً، ولا فكاك بينهما، لأن كل واحد بمثابة نتيجة للآخر ومعبر عنه.
للّقطات مرامٍ عدّة ممزوجة مع بعض، وهذه المرامي اجتمعت كي تُحقق مرمىً مركزياً واحداً. لعل البداية منها في اختيار زاوية اللقطة، ففيها اختيار نوعي، ذلك لأن عين الكاميرا راعت فضاء الزاوية، وسطوع أشعة الشمس من جهة، وموازنات ذلك مع ظهور النموذج على أناقة، منها تشذيب شعر الرأس والذقن، ومن جهة أُخرى الظهور في شوارع المدينة أمام الناس دون ارتياب أو وجل. هذا على صعيد امتزاج كيفيات نجاح اللقطة وتميّزها بالمقياس العام. لكن في الجانب الفني، وجدنا الفنان قد ركز بمهارة عالية وتقنية فنية مكثفة على فعالية الضّوء والظِل، ولاسيّما على تقاطيع الوجه، فقد ظهرت على صفاء واكب مظاهر الأناقة العامة للجسد والوجود المادي للنموذج.
إن فعالية الضّوء والظِل هنا تؤكد نوع الإحساس النفسي عند النموذج، أي أنه استعاد التركيز وظاهرة التأمل في الوجود. فهو قد أخفى مظهره الذي أضافه له الطرد، وأعاد لهيئته المعنى الحقيقي لوجوده. إن التغيير وإن ظهر مجتزأً، إلا أنه كاف لعكس الظاهرة النفسية، فالعري كامن في الذات، لأنه يشكل موقفاً فلسفياً، لا يتميّز به هذا النموذج وحده، بل هو ميزة كثيرين انقطعوا للعبادة والتأمل في الوجود كالمتصوّفة، فهم يتجردون من مباهج الوجود المضافة لوجودهم العقائدي والنفسي، وما ظهورهم على حالة التقشف إلا انعكاس للقناعة والتوازن مع تأملاتهم بدافع بناهم الفكرية، ونموذج الصورة هنا من هذا النوع الذي يجد في ذاته خصائص مختلفة، لكنه يعتز بوجوده وسط مكان العُزلة.