أحمد هاتف /
لا أدري من أين جاء.. ذاك الذي يسير على ابتسامته.. سريعاً كاستقرار نقطة حبر على فضاء أبيض.. كنت أراه هناك.. في ممرات أكاديمية الفنون.. يجلس بوهن برخت.. ويدوزن نظراته كجوق في مسرحية كلاسيكية.. يقرأ كما يدخن.. ويضحك كما لو أنه يشرب كأس الحياة… لا أتذكر يده خالية من كتاب.. حين رأيته على المسرح بصوته المدهون بغبش الجنوب تساءلت.. “لماذا يولد الجنوبي وبه وجع كلكامش.. وشيء من نواح سومري..”
لم يكن نوّاحاً.. كان غارقا باسقاً كـ “صوت عتيق لسيد محمد النوري” أحد أجداده اليمكثون في الذاكرة”.. لم يشأ أن يبزغ بسرعة نمر.. لأنه جنوبي جاء حاملاً صوته وأحلامه.. ولم يك قادراً على الانحناء ليمضي بسهولة إلى الشاشة.. هكذا امتلك المسرح.. طاغية من طغاة هذا الفن.. وأحد دهاته السحرة.. في”الذي ظل في هذيانه يقظاً” أدار رأس الصحف والجمهور.. وكسر تلك المسافة الباردة بين الفرجة والستيج.. صعد كما “ألف منشد في صمت” ليهز صلابات القلوب.. “كان مجرماً” كما يقول “فاضل خليل”، اشترك مع غانم حميد “مخرجاً” ليعود بالمسرح الارستقراطي إلى جمهوره.. حينذاك قالوا إنه “عبد الحكيم جاسم”، وكانوا يعرفونه تماماً، لكن لفرط دهشتهم كرروا الاسم.. حين قطف أثمن جوائز الموسم ومضى إلى التلفزيون ليوقع اسمه مع” فاروق محمد ومعاذ يوسف”.. هو ذاته “مكبث” الذي بدا مع شفيق المهدي غريباً عن فضائه.. غارقاً في وحشة فردانيته وغرائبيته وحزنه.. كان مكبث لا يمت إلى ما عرفناه.. هكذا قدمه حكيم جاسم.. مبتلاً بحزنه حتى آخر أنفاس استغرابه.. رجل يصارع طيف كوابيس.. مبلولاً بحزن لا ينقطع وكوابيس لا تكف تصرخ.. وهكذا أعاد حكيم جاسم رسم حدوده ليؤسس صورة الممثل الذي لا يكف عن تذوق مرارات دوره…
يوم كتبت “هستريا” لم أجد صورة الممثل.. كنت غارقاً في الشخصية، وحين استقامت هلعت.. وتساءلت “من يمكنه ألّا يُقتل في هذا الدور..؟”
لذا صممت سمعي عن المقترحات.. حتى أشار “فارس طعمة التميمي” إلى حكيم جاسم… لحظتها تساءلت “كيف لم يخطر لي حكيم”.. وقلت هو هذا.. لم أشأ التفكير.. كان هو حكيم جاسم.. ذاك الشاب الذي يستطيع أن يلاعب قدره.. فيضحك ويحب ويتحدى ويبكي.. ويسخر.. ويموت.. أتذكر تماماً يومها.. قال لي عبد الخالق المختار:
– لماذا لست أنا؟
ارتبكت لأني لم أر في عبد الخالق ذاك الجنوبي… قلت “أنت أبيض وسجّاد أسمر.. إنه حكيم.. لأن الروح لديه أكثر حزناً وربما لأنه يملك روحي ذاتها”.
لم أستطع رسم ما أفكر فيه.. لذا انطلق حكيم.. وكنت أراقبه يؤدي.. حتى انفجرت “هستريا” في الشارع راسمة صورة العاشق المثالي.. لأعترف أن حكيم جاسم سكب روحه في هذا الدور حتى خفت ألا يترك شيئاً لمستقبله..!
لذا لم يك مستغرباً أن يكون “سجّاد” أو حكيم جاسم فتى أحلام عقدين من السنوات… لكن هل هدأ هذا المحارب… لا أظن.. أتذكر يوم دعاني فارس طعمة التميمي.. لأشاهد معه حلقات مسلسله “السيّاب” الذي كتبه الراحل سامي محمد وجسد فيه “حكيم جاسم” دور بدر شاكر السياب.. كنت أهلل للأداء.. أطلب من فارس أن يعيد المشهد لأرى حكيم كيف يلتقط تلك الكلمات التي لم تكتب في المشهد.. كان يتداعى.. يتوّج.. يغوص.. يشتعل.. يذوي.. ويصرخ.. كان يلتقط روح ذاك الشاعر يذوي بها حد الغرق ويزفرها في أداء أقل ما يقال عنه أنه “استثنائي”.. أدرك حكيم السيّاب.. وصارع المكتوب ليضفي عليه معرفته.. كان الممثل الذي يدير رأس الصفات.. وهكذا كان في “العباءة” للكبير يوسف الصائغ.. ممثلاً يجيد المرور بين بريق الجمل ليضفي وجوده.. يا إلهي “من يستطيع التفوق على حضور يوسف الصائغ”!!!.. لكن حكيم جاسم فعل ذلك.. حتى أجبر الصائغ على الوقوف والتصفيق… كان موجة ولم يك مجرد ممثل.. كان يأخذ الهواء من القاعة ليتنفس مطلقاً موجة هائلة تهز المسرح وتجبر السكون ليسكن أكثر.. كنت لا تسمع في تلك القاعة غير أنفاس حكيم جاسم.. هديره وصوت روحه… وهكذا في “آخر الملوك” مع حسن حسني… وفلاح شاكر.. أيقن حكيم أنه لم يستقدم عن عبث.. فلم يك يتطابق مع ملامح الراحل صاحب السمو عبد الإله الوصي.. لكنه يماثل روحه.. رعشته.. عصبيته.. هواجسه.. شاعريته.. غربته وسط كم هائل من الحماقات.. كان امرؤ القيس في قومه.. التقط “فلاح شاكر” بعمقه ووعيه ذاك.. ليطلق حكيم جاسم راقصاً في حفل قتلى.. إنه الكثير من ماكبث والكثير من هاملت والكثير من سجّاد والكثير من السيّاب.. خلطة جديرة بممثل صفوة كحكيم جاسم.. لذا كان متفرداً هناك.. كنت أراقبه وأدرك أن هذا الرجل يغرق، يصل إلى أقصى حدود طاقته.. وأتساءل من أين له أن يستمر.. كيف يجد ذاته الجديدة ليقف مرة أخرى بكامل وجوده المدهش… أتذكر في “الوحاش” كنت أراقب حكيماً يتدفق وأنسى متابعة حركة المصور.. أشعر أن حكيماً يلغي ما حوله.. حتى أنه ذات مرة حطم غرفة النوم في المشهد دون أن يتجاوز الحركة والحوار والروح.. كان يمنحني “لحظة البطل هشام” بأعمق مما كتبتها.. كان يؤلف ما سهوت عنه ويعيد بناء اللحظة بوعي متمنمر مذهل…..
لا أدري.. كيف يمكن لمؤلف أو مخرج أن يغادر أداء حكيم جاسم.. كيف له أن يخرج من مشهده ليعود إلى ممارسة عمله مع ممثل آخر دون أن يشعر بثلمة في قلبه..
يوم عرضت الحلقة الأخيرة من مسلسلي “هستريا” تساءلت ماذا فعلت بنفسي.. كيف وافقت على الإتيان بممثل يضعني بكل هذي المساحة.. ماذا سأفعل لأتجاوزه وأتجاوز هسترياه…؟
وكي لا أكذب.. أقول كل يوم هل استطعت أن أتجاوز تلك المساحة؟… وما تزال الإجابة ملتبسة…..