رجاء خضير /
الموج الهادر تخاف منه البحارُ والشواطئ, لأنه لا يؤتمن, والابتعادُ عنه شيء مستحيل عندي لأنني ولدتُ من رحمه, أخافه وأحبه ولكن المسافات بيننا ضبابية. أعشق الشاطئ وأكره الغوص فيه، من بعيد أراقبه, أحّنُ اليه. أتمنى من الموج أن يضمني ولكن أعماقي ترفض كل ما أرغبه. إذن لأبقَ على شاطئ أوهامي وأراقب وأرى عسى الله أن ينقذني مما أنا فيه من حيرة وقلق وخوف وحب!!!
قالت: بصوت حزين لم أرَ أمي إلا في الصور، وكذلك أبي، فقد فقدتهما منذ كان عمري ثلاث سنوات, كنا في رحلة الى شمال الوطن وحدثت الكارثة حيث اصطدمت سيارة أبي بشاحنة كبيرة، كنت في حضنه وهو يسوق، أما أمي فقد نامت في المقعد الخلفي فما كان من أبي إلا أن يحتضنني ليهب لي الحياة ويفارق هو الحياة ونجونا أنا وأمي، هذا ما قالته لي جدتي!!
كانت تردد هذه القصة دائماً وتريني صور أبي المرحوم وصورة أمي. لم أسأل عنها حينها لأنني صغيرة، ولكن حينما كبرت سألتُ عنها… اذا هي لم تمت بالحادثة إذن أين هي؟ ولماذا لا تسكن معنا؟ بكت جدتي(أمها) وأكدت لي بأنها ستقص عليّ الحكاية حينما أكبر قليلاً.
بكيتُ كثيراً وتوسلت بها أن تخبرني بدلاً من الحيرة والمعاناة, أريد أن أعرف مصير أمي. أجابتني ببرود: أمك بخير لا تفكري بها, لأنها لم تفكر بك أبداً!
شعرتُ أن الأرض تهتزُ تحت قدمي وأصابني دوار، وحينما أفقت وجدت نفسي في أحضان جدتي وهي تقبلني.
مرت الأيام والأسابيع بل والسنوات، وفي كل يوم يزداد شوقي لمعرفة سبب ابتعاد أمي عني, أكملت الابتدائية وكنت من المتفوقات دراسياً وايضاً المتوسطة ما جعلني اكمل دراستي في مدارس المتميزات, وهنا حدث ما لم يكن في الحسبان!! حيث تكرر الإغماء عندي ما دفع جدتي وخالي أن يعرضاني على أطباء عدّة الذين تكتموا على علّتي وما هو مرضي.
عرفت من خالي أن علاجي ليس في العراق وإنما في احدى الدول الأوروبية, بكيت وكذلك جدتي التي لم تتوقف عن البكاء طوال إجراءات معاملة السفر, ساعدنا في ذلك أن والدي، رحمه الله، قد ترك لي ثروة ليست بالقليلة, وهكذا سافرنا نحن الثلاثة وبدأت رحلة العلاج وكم تمنيت أن تكون أمي معي، ولكن هي منْ تركتني طفلة, فهل تتذكرني الآن؟
بقينا هناك الى أن اكتمل علاجي وشفائي من المرض تماماً, وقد أكد الأطباء لنا بأننا نستطيع العودة الى الوطن بعد أن أعطونا التعليمات اللازمة.
فرحنا بالعودة وبدأت أحضرملابسي وكتبي كي أعود لمقاعد الدراسة, وبجهدي تميزتُ ايضاً على أقراني في الدراسة, تعافيت مما كنت أشكو منه وحمدتُ الله على سلامتي, كنت أقبلُ يدي جدتي وخالي اللذين لم يتركاني ولا لحظة.
وفي يوم وجدتُ جدتي تقلب في صور أمي وتبكي، وهنا طلبتُ منها أن تحدثني وبصراحة لماذا تركتني أمي… فقالت جدتي: سأوضح لك الأمر ولك القرار…
حينما حدثت الحادثة آنذاك احتضنكِ والدكِ كي لا يصيبك مكروه وفعلاً مات هو لتبقي انتِ على قيد الحياة, أمكِ اعتبرتك انتِ السبب في وفاتهِ, كانت تعشقهُ وتحبه بجنون, لذا لم تطق النظر اليكِ فاعتنيتُ بك أنا منذ البداية وحينما تزوجت بآخر استقرت معه ولم يخطر على بالها السؤال عنك في يومٍ ما, لذا قاطعناها نهائياً, وهذا ما كانت تريده.
ياجدتي لماذا كنت تطلبين مني أن انظر الى صورها إذن؟؟
قاطعتني: لأنها أمكِ, واخشى أن أغادر الدنيا وتبقين وحيدة.
صرختُ: أنا أعود لهذه الأم التي بلا رحمة ولا شفقة على ابنتها؟! أنا على استعداد أن أعيش بقربك حتى وإن كنت في القبر ولا أعود لمثل هذه الأم, احتضنتني وتلاقت دموعنا…
في يوم شتوي ممطر اشتد فيه المطر حين خروجنا لتصبح الشوارع عبارة عن برك مياه, عند العبور عبرت معنا تلميذة صغيرة، ومن خوفها وقع حذاؤها في الماء فصرخت, التفتُ اليها وسحبتها على الرصيف القريب, وذهبت لجلب حذائها,وهدأتها فتوسلت بي أن آخذها الى بيتها فهو قريب, رافقتها أنا وصديقتي وطرقنا بابهم لتخرج أمها، ودون أن تنظر الينا احتضنتها وقبلتها, رفعت رأسها لتشكرنا أنا وزميلتي وتسمرتُ في مكاني ولم أستطع الرد, وهنا نادى والد صديقتي أن تستعجل ليعودا الى البيت فذهبت لأبقى انظر في وجه أم الطفلة, استغربت من تطلّعي اليها وسألتني: من أنتِ وماذا تريدين, فأنا قد شكرتك:
صرختُ بها… وماذا أريدُ من أمٍ تقطعت عندها حبال الأمومة وفقدت رحمتها تجاه ابنتها؟ صرخت أم الطفلة: من أنتِ! وكيف تتجرئين على قول مثل هذا؟
لأنك أم بلا ضمير. تقدمت لتصفعني، ابتعدتُ عنها وقلت: اما يكفي, صفعتك آنذاك, حين تركتيني طفلة؟
انهارت واستندت الى الباب القريب منها! أنتِ!! نعم أنا.
أسرع اليها ولدها الصغير والتلميذة , من هذه يا أمي: لم تجب عن سؤالهما،
وبماذا تجيبهما!!
تركتها تبكي وتتوسل أن أعود اليها وأوضح او لتوضح لي الأمور!
تركتها تبكي كما تركتني ودموعي لم تنقطع طوال عمري من حرماني منها!!
ياترى هل صحا ضميرها؟
هل شعرت بذنبها؟
ام هي لحظات ندم قد تنتهي سريعاً بضمها لطفليها؟!