عبد الزهرة زكي/
كان مفترضاً أن تعلق ذكريات أجمل عن تلك السفرة التي سأتحدث عنها هنا والتي مرّ عليها أكثر من أربعين عاماً، لكن ما حصل هو أن ذكرى واحدة فقط علقت من السفرة وبقيت هي الأقوى حضوراً من سواها، وكانت ذكرى مؤلمة.
ففي يوم من أيام منتصف السبعينات تعرضنا لهذا الموقف الذي تقدمه تلك الذكرى كلما حضرت في البال، لقد كان موقفاً وضعنا على حافة الموت، وكنا في ذلك الموقف عائلتين معاً بأكثر من عشرين شخصاً..
في آخر استدارة على جبل في ضواحي مدينة أربيل قبل مصيف صلاح الدين (ولا أدري ما إذا كانت لا تزال حتى الآن تسمى 14 لوفة) أوقفنا السيارة (باص مرسيدس 18 راكباً) التي كانت قد حملتنا ظهيرة يومٍ أول من أيام عيدٍ من بغداد إلى (شمالنا الحبيب)، وهي تسمية لمحافظات كردستان كان قد دأب عليها العراقيون، في الوسط والجنوب، تحبّباً بالمحافظات الجميلة وبأهاليها الطيبين، وكانت تقال ببراءة شعبية لا صلة لها بالسياسة وتفسيراتها.
لقد بلغنا كركوك مطلع الليل، وجدنا حينها كثيراً من العائلات البغدادية، وصلت قبلنا، وكانت قد افترشت الحدائق في مدينة النفط للاستراحة ولانتظار الفجر والتوجه من ثمّ إلى المصايف والجبال في أربيل والسليمانية ودهوك. لم أرَ كركوك من قبل، فشجعتُ من كان معي لقضاء الليل فيها وتناول العشاء هناك في الحدائق التي أرغم المسافرون على البقاء فيها مع شح الفنادق والمطاعم التي ضاقت بأعداد المصطافين، كانت كركوك مدينة صغيرة وبدت لنا مدينة جنود وعمال وموظفي النفط.
مع الفجر تحركنا نحو أربيل، باتجاه مصيفها الأشهر، مصيف صلاح الدين الذي بلغناه في أولى ساعات الصباح حيث اجتزنا قرية ببيوت قليلة ومتناثرة قيل لنا أنها (عين كاوة)، وكان الطريق العام على مسافة أكثر من مئة متر عن تلك البيوت.
مصيف صلاح الدين في أعلى جبل وكان بلوغه يجري عبر طريقٍ ضيق حادّ الصعود قبل أن يؤدي إليه بحيث ارتفعت حرارة المحرك بعد الصعود الصعب للجبل ولاستداراته الأربع عشرة الحادة، فأوقفنا السيارة، ونزلنا منها أنا وابن عمي سائق الباص، وبقيت عائلتان بنسائهما وأطفالهما داخل السيارة ينتظروننا..
كان ذلك في صباح يومٍ من أيام مطلع الصيف، إنّها المرة الأولى التي أكون فيها هناك على الجبال، لقد وُلدت وعشت في مدن الجنوب الوسط بأرضها المنبسطة، ولم يكن الجبل بالنسبة لنا سوى مجرد صور وخيالات وحكايات تمتزج فيها المرارة بالجمال كان يرويها الجنود الذين يقضون خدمتهم العسكرية هناك حين يعودون إلى أهاليهم. لقد كانت هي المرة الأولى أيضاً لجميع مَن في الباص سوى ابن عمي السائق الذي قضّى سنواتٍ جندياً على الجبال، وكان هو صاحب فكرة السفر إلى أماكن خبرها وعاش فيها. كانت عذوبة الهواء في ذلك الصباح تزيد من متعة التوقّف وجمال التطلّع في الوادي السحيق الذي بات تحتنا، ولكن فجأة سمعنا صراخاً داخل السيارة، التفتنا فإذا بها تتراجع وتنحدر بمن فيها باتجاه الوادي.
كان انحدارها بطيئاً. الشارع نفسه الذي هي عليه كان منحدراً باتجاه الوادي انحداراً غير واضح للعين، وهذا هو ما جعلها تنحدر وجعل أيضاً انحدارها بطيئاً.
كانت عيون جميع مَن في السيارة تحدّق فينا فزعةً حينا ومتوسلة حينا آخر؛ لقد بتنا فرصتهم الوحيدة من أجل النجاة. ليس بين الركاب الباقين داخل السيارة من يعرف قيادة السيارة، كان بينهم ابن عم لنا وكان الأقرب إلى باب النزول، كان واقعاً على وشك النزول واللحاق بنا ليشاركنا تطلعنا في الوادي العميق. لكنه يبدو، وما إن بدأت السيارة بالتقهقر إلى الوراء وارتفع الصراخ، ألغى فكرة النزول، فقد تخلى عن الباب بعدما أغلقه واستدار إلى حيث كان في السيارة ولم يجد ما يفعله سوى محاولة عابثة لتهدئة النساء والأطفال، لقد كان الصراخ يتعالى ويزداد تعبيراً عن الخوف والتوسّل.
كان يمكن للصراخ أن يضاعف الرعب، وكان له أيضاً أن يؤدي إلى تشتيت التركيز وتعطيل التفكير وتضييع أية فرصة لإيجاد حل. لكن البحث عن حل يأتي ويبدأ مباشرة من دون إرادة.
وفعلاً بحركة لا إرادية اتجهنا، أنا وابن عمي، إلى مؤخرة الباص لمحاولة إيقافه، فكان هذا عبثاً، فقد واصلت السيارة تقهقرها وظلت تدفعنا معها نحو الوادي، لم يبق سوى مترين أو أقل بيننا والسيارة وبين الوادي.
وفجأة أيضا حدّق فيَّ ابن عمي وهو يزمّ شفتيه مذهولاً وصامتاً، ربما كان يبحث في عينيَّ عن حل، وحين لم يصادف أي حلٍّ عندي فقد تركني وحدي أحاول مع السيارة لإيقافها فيما انطلق هو راكضاً.
لقد يئس من إمكانية إيقاف السيارة (وكان يأسه مهمّاً له ولنا حتى يصل إلى حل)، فكانت المبادرة منه؛ حيث غامر وصعد السيارة في لحظة لم تتبق فيها سوى سنتمترات على الاقتراب من الحافة ومن السقوط في الوادي.
كانت عيون جميع مَن في السيارة تحدّق فيَّ وفي محاولتي إيقاف السيارة، وليس واضحا ما إذا كانوا يحدّقون بوصفي سأكون أول الضحايا المندفعين مع السيارة إلى الوادي، أم كانوا يفكرون في أمل غامض ومستحيل ينتظرونه مني حيث لا أمل مع المسافة التي باتت تضيق بينهم وبين الموت. كان الأغرب في الأمر أن أيَّ أحد ممن في السيارة لم يتدافع ولم يحاول النزول والتخلي عن الباص المتهاوي وعن الآخرين المندفعين فيه إلى موتٍ بات محتّماً.
كان تصرُّفُ ابن عمي يتطلب جرأةً نادرةً وحكمةً في التصرف قد لا تتاح بمثل تلك اللحظة؛ هذه مبادرة تأتي في لحظة يصعب فيها الحفاظ على الهدوء والتفكير بتوازن، لقد كان يمكن له أن يفكر بأن صعوده السيارة المتهاوية ليس أكثر من إضافة رقمٍ لعددِ مَن كانوا سيموتون. لكن ما الذي يمكن لمثله أن يفعل غير ما فعله هو؟ لا أصعب من تحمّل مثل هذه المسؤولية التي تكون معها حياة الآخرين رهن تصرف منك.
يئست من عبث محاولتي فتمسّكت بأمل أخير كان بصعود ابن عمي فكففت عن العبث من أجل إيقاف السيارة المندفعة إلى الهاوية ورحت لأقف جانباً، ولم أستطع الوقوف..
وفعلاً صعد ابن عمي الى الباص، وبسرعة انطلق به إلى الأمام وسط تعالي التهليل والدعاء الممزوجين بالصراخ، فأنقذ نفسه وقبل هذا أنقذ معه ما لا يقل عن عشرين شخصاً كانوا في السيارة..
لقد تكفّل هو بالمبادرة المغامرة (فهو سائق بينما أنا للآن لم أقد دراجة هوائية) فيما تكفلتُ بعد ذلك (وكما هي العادة دائماً) بالكلام.. فبعد دقائق قليلة وصلنا المصيف، كان كلّ واحد منا حزيناً ومرعوباً وصامتاً، نزل الجميع من السيارة عند مجرى مائي بارد وعذب، لقد استمر الصمت فكان أول كلام كسرتُ به ذلك الصمت الذي ما زال مشحوناً بالخوف:
ــ انسوا ما حصل، واستمتعوا، لا تنكّدوا السفرة والعيد وأيّامه بالانشغال بموت تجاوزناه بسلام.. حمداً لله على السلامة.