دموعُ جدّي

رجاء خضير /

قلبتُ أوراق الزمان, لم أجد فيها حرفاً يفسر ما في القلب من عشق ولوعة تصدرُ من نفس تبحث عن أمان وسط مخاوف لا نهاية لها, وعن ربيع ذبلت أوراقه قبل أن ترى الحياة، فعلامَ نعتبُ على زمن ليست لنا فيه أيام؟ وعلامَ ندور في فلك ليس لنا فيه قرار؟

تروي (ن) بدموع تسابق كلماتها: أنا شابة لم أتجاوز الثلاثين من عمري بعد, من عائلة متوسطة الحال, استشهد والدي وأنا طفلة صغيرة، وعكفت أمي على تربيتي مع إخوتي الثلاثة، كان لي النصيب الأكبر في العناية والدلال بحكم كوني الصغرى بين إخوتي، كما كنت مدللة من جدّي لأمي.
لم أكن أحبُ الدراسة، لكن أمي لا يروق لها هذا الحال، وكانت تحاول إقناعي، تارة بقسوة وتارة بالإقناع.
في يومٍ وأنا اقرأ ما كتبته لنا مدرّستي وإذا بـ (الموبايل) يرّنُ، رقم غريب لا أعرفهُ سابقاً، وإذا بصديقة لي منذ الطفولة، وبعد أن عرفتني بنفسها، بل وذكرتني بأشياء عدة مشتركة بيننا، تجددت علاقتنا من وقتها، التي لم تنقطع إلا مؤخراً، وقد أبلغتني أنها تعيش في إحدى الدول الأوروبية، وتنعم بحياة سعيدة مع زوجها، إلا أنها لم تنجب اطفالاً, وكلما سألتها عن السبب ترد ببرود (أنا وزوجي لا نفكر بالأنجاب).
وأضافت (ن): نصحتني أمي أن لا أتدخل بعد في حياتها الشخصية، فهذه مسألة تخصهما (هي وزوجها) فقط.
كنتُ أقصُ لأمي كل ما يدور بيننا، بل كانت أمي أحياناً تطلب مني سماع المحادثة بيننا عبر مكبر الصوت وكنتُ أعرف ما تقصده أمي من ذلك، أضحك مع نفسي وأنفذ ما تريد.
سارت الأيام، وعلاقتنا جيدة لم تنقطع, وفي أحد الأيام طلبت مني أن أحدثُ صديقاً عراقياً لهم سافر الى هناك لطلب الرزق والعمل، وبعد إلحاح صديقتي، حدثتهُ مرات عدة ثم طلبتُ منها أن لا تفعل ذلك معي بعد! والا أقاطعها نهائياً بل وأخبر أمي بذلك.
وفعلاً انقطع عن الاتصال بي، لكن القطيعة هذه لم تدم طويلاً ،اذ دخل عليّ بأنه أحبني ويريد الزواج بي وأن يصطحبني الى هناك حيث يعيش، وساعدته صديقتي بإنجاحه بإقناعي، وتدريجياً بتُ لا أطيق يومي اذا لم أسمع صوته، نعم أحببتهُ كثيراً لكني كنت أخشى أمي، التي فاجأتني يوماً بالدخول الى غرفتي وحدثتني عنه كثيراً وأنا غير مصدقه ما اسمعهُ، وعرفت منها أن صديقتي قد أخبرتها بكل شيء وأنه ينتظر الموافقة كي تزورنا أمه التي تعيش في بغداد وتطلب يدي رسمياً.
عندها شرحتُ لأمي كل ما دار بيني وبينهُ من أحاديث واعترفتُ لها بأنني، أحببتهُ. خلال أيام زارتنا أمهُ التي أقنعت أمي وجدّي بالخطوبة، وحينما سألها جدّي عن عمله هناك, أجابت بأنه يعمل في أحد المصانع, عندها قرأتُ عدم ارتياح جدّي لمِا قالته عن عملهِ، لذا اضطررتُ لسؤاله بعد خروجها, قال لي: أتمنى لكِ السعادة!
ولم يجب عن سؤالي, وخلال أشهر عدة أصبحتُ زوجته بعد أن اصطحبتني أمهُ وأمي الى بلد قريب من مكان إقامته، لنراه ينتظرنا هناك وذهبت معه وعادت أمي، التي بكت لفراقي، الى الوطن.
وسألته مرة : الوقت ليلاً ما شغلكما الآن؟ وأين تعملان؟؟
صمتا وخرجا مسرعين دون إجابة! بعد خروجهما ضمني زوجي بقوة وهو يقول لي “لقد وجدت لك عملاً معنا!”
فرحت كثيراً وشكرته على اهتمامه بي، وفي الحال أخبرتُ أمي التي بدورها فرحت كثيراً وسألتني ما نوع هذا العمل؟ لم أجبها وعلقتُ: أنا لا أعرف يا أمي سأخبرك حينما أذهب للعمل وأعرف ما هو.
وفي اليوم التالي اصطحبني زوجي ليلاً وقال بأنه سيأخذني للعمل, وسألتهُ أي عمل في الليل؟ رد: لا تستعجلي ستعرفين كل شيء هناك.
دخلت صالة فيها الكثير من الزبائن، ورأيت صديقتي هناك، ترتدي ملابس شفافة، أكادُ لا أصدق ما أرى، سلمت عليّ بشكل رسمي وذهبت تقدم للزبائن ما يريدون و…و…
سألتُ زوجي ما نوع عملي هنا؟ أجابني بكل برود: تعملين مثل صديقتكِ هذه, واشار اليها.
جلستُ على كرسي قريب مني من هول الصدمة, ثم نهضتُ لأخرج من المكان, فاصطدمت بشخص ضخم ظننته باباً خشبياً أوقفني وتحدث بلهجة لا أفهما مع زوجي الذي تحدث بتوسل وخضوع معه.
بعد ذهاب الرجل خاطبني زوجي: أرأيتِ سيطردني من العمل, لأنه دفع تكاليف مجيئك الى هنا و.. و.. تمالكت أعصابي وخرجتُ من المكان المظلم, وفي الشارع تنفستُ جيداً ليلحق بي زوجي ومن خلفهِ اثنان لا أعرفهما, أوقفانا فصرخت بهم جميعاً أنا أتيتُ هنا زوجة لرجل عراقي ظننتهُ يتمتع بالشرف والمبادئ و الإسلام, ولم أعرف نيتهُ الحقيقية بالزواج مني لأعمل (!)… بأي حق وأي قانون تهان المرأة هكذا!! تركتهم وسرتُ، وفي الحقيقة لا أعرف شيئاً عن الشوارع أو أين أسكن ولا اعرف بمن اتصل ليساعدني.
دنيا مظلمة قاسية، وفكرت أن اتصل بأمي لأحدثها بما يجري معي، وتراجعتُ لأن الوقت عندهم مبكر جداً وخشيتُ عليها من هول الصدمة.
سمعتُ خلفي وقّع أقدام وإذا بزوجي يقنعني بالعودة الى العمل لأنه سيُطرد بسببي، وصرخت وسط الشارع: تريدني أن أعمل (!) أين ضميرك، شرفك، إنسانيتك هل ضاعت جميعها في بلاد الغربة؟
أرسلت إلي لأكون زوجة أم (!)
إن كانت صديقتي قد أوقعتني بالفخ, فأنا أعرف كيف سأخبر اهلها بعملها هي وزوجها.
وهنا ضربني بقوة على رأسي كي يسكتني، وقعتُ أرضاً لأجدُ بقربي غصن شجرة حيث كان عمال النظافة وفلاحو الحدائق يعملون ليلاً, التقطت الغصن وضربت زوجي وهو يحاول مغادرتي على رأسهِ مرات عدة وسط تجمع عمال النظافة, ثوانٍ وأتت الشرطة وقيدتني بعد أن استمعوا إلى العمال, حديثهم لم أفهمه, وشيء أكيد أنهم تحدثوا بما رأوه.
ثم حملوا زوجي الى سيارة إسعاف ونقلوه الى المستشفى, وأنا في مركز الشرطة لا أفهم ما يقولونهُ ولا هم يفهمون ما أقوله, وفي هذه الاثناء حضرت صديقتي إياها وزوجها وتحدثوا طويلاً مع الشرطة، وبين آونة وأخرى كانت ترمقني بنظرات سخرية واستهزاء، بعدها نقلتُ الى سجن صغير وفهمت من هذه التي أسميتها صديقتي أنهم ينتظرون خروج زوجي من المستشفى ليطلقوا سراحي, وخلال هذه الفترة اتصلتُ بأمي وأخبرتها بكل شيء، التي بدورها عملت جاهدة على إعادتي الى العراق بمساعدة الخيرين هناك بعد أن أجبروه على الطلاق، وهكذا عدتُ الى وطني حيث المبادئ والشرف والأصالة. أنا لم أشف بعد من صدمتي هذه، بكى جدّي وقبلني وفسرتُ نظراته آنذاك فتلاقت دموعنا سوية.