عبد الجبار خلف/
في عام 2000، التقيت الأديب والباحث الموسوعي الراحل زهير أحمد القيسي (1932 – 2012) وطلبت منه أن ينتخب لي يوماً من عمره ما زال يراه أمامه بكامل هيأته وتفصيلاته. لم يلتفت بحثا عنه في أرجاء الذاكرة، بل إنه تأمل قليلا في وجهي وهو يمسد لحيته، فشعرت به يمسك بتلابيب ذلك اليوم ليأتيني به من أيما سنة، سواء أكانت بعيدة أم قريبة، وقد أحسست أنه في داخله يبتسم لسؤالي الذي ربما حرّك في نفسه ذكريات معينة.
قال، وما تزال كفه تمسد لحيته: كثير من الأشياء التي تعلق بالذاكرة وتلتصق بها فلا يجد المرء مندوحة من تذكرها بشكل إرادي، وحين استعرض أحداثاً مرت بي ومررت بها، يبقى لذلك اليوم الذي سأشير اليه الآن طعمه ونكهته، فهو اليوم الذي ظهر به اول نتاج لي في الصحف، وكانت قصيدة دبّجها يراعي عام 1949، وهو عام بدء حياتي الثقافية التي استمرت على مدى خمسين عاما، ومع مرور هذا النصف الكامل من القرن، فإن لذلك اليوم أثره وطابعه الباقي.
توقف قليلا كأنه يسترد أنفاسه او يتأمل وجه ذلك اليوم، قال : كان ذلك في اول ايام شتاء 1949، وبالضبط في شهر كانون الثاني منه، عندما صدرت جريدة (الهاتف) البغدادية آنذاك لصاحبها القاص والأديب العراقي الكبير جعفر الخليلي (1904 – 1985)، وكنت قد أرسلت اليها بقصيدة صغيرة تحمل عنوان (طفلة)، برجاء ان تنشر في هذه الجريدة الجليلة ويظهر فيها اسمي مع أسماء أولئك الأدباء والكتّاب والشعراء الفطاحل الذين كنت اقرأ بإعجاب بالغ نتاجاتهم ، وقد سرّني وفاجأني أن تنشر هذه القصيدة جنباً الى جنب مع بحث للدكتور المرحوم مصطفى جواد.
توقف القيسي قليلا وثمة سرور يلوح على محيّاه، ثم أضاف : أقول .. بالرغم من أن آلاف الصفحات كتبت خلال نصف القرن هذا وعشرات الكتب صدرت تحمل اسمي ومئات المحاضرات والمجالسات الأدبية العالية المستوى التي عانيتها في حياتي، وعلى الرغم من اليوم الاول من آب عام 1998 الذي طرحتني فيه أرضا جلطة دماغية لعينة ، فإن ذلك اليوم يبقى الأثير لديّ وله أهميته في حياتي، لذلك لم أنسه ابداً.