#خليك_بالبيت
مقداد عبد الرضا/
في زمن الطوق الحديدي الذي يُشد على أعناق كثير من الفنانين هنا، وفي كثير من مساحات العالم، يشتد عناد الفنان في العطاء، لكنه عطاء مكسور بعض الشيء, إنك لن تستطيع أن تضع بصمتك إلا عبر الأرض التي أنجبتك. نعم، يمكن أن تنجز أشياء كثيرة لكنها كما أسلفنا تظل ناقصة, ناقصة الجدران والشوارع والحواري وحتى الطقس الذي كنت تفتح صدرك له. كثير من البلدان طاردة للمواهب بسبب المزاج, والسياسة, والتخلف. تعالوا نختار أيّ البلاد في وطننا العربي هي الأكثر طرداً لأهلها؟
في التاسع من شهر شباط عام 1924 فاضت روحه إلى الداخل. وفي تلك السنة تولى الشبح الأسود ستالين مقاليد الحكم. وفي مدينة تبليسي وعند نهاية شارع (مسخي) حط غراب الفراق فوق كتفَي الطفل فأحاله وحيداً. غادر الأب البيت وكذلك فعلت الأم. يجب إنقاذ بيت الفراء بالفراق كي تكون حياتنا أكثر سعادة, علينا أن نتجه عكس ريح التلاقي. كثير من الكتب والآثار النادرة يحتفظ بها الأب, هذه العدوى سوف تنتقل إلى الفتى حين يكبر. أثناء حملات التفتيش يُعتقل الأب, لم تنقطع الأم عن هدهدة الفتى وتدليله, نشأ أرستقراطياً يضع في راحة كفه مفاتيح أبواب ظلال الأجداد, ومن يمسك بمفاتيح هذه الأبواب سوى أصحاب العقول الأرستقراطية؟ لم تُخلق سينما من قبله, هكذا هو الحال, يقول:
– أنا الأفضل..
تسأله الناقدة خيرية البشلاوي في مقابلة لمجلة السينما, العدد 14- 1970
– من يعجبك من مخرجي العالم؟
قال بثقة: سرجييه باردجانوف, هذا رأي حقيقي, لو كنت إنساناً واقعياً لأصبحت عندي بدلتان في الأقل, كنت سأصبح فناناً فاشلاً لو امتلكت بدلة أخرى غير التي أرتديها.
في المشرق من أيامه البخيلة كان معلقاً بأشياء آسرة, تدهشه النقوش, ويعي قراءة الزخارف, حب غريزي للمجوهرات والحلي الثمينة والقطع الأثرية النادرة, لكنه طوَّح بها بعيداً بعد سنوات ليصنع من تراب الأرض أيقونات ظلت خالدة أبداً. تستفزه الخطوط، عربات النذر، عربات الحديد، الجثث الحديدية, يدرس عاماً في معهد المواصلات, ثم عامين في المؤسسة النغمية, ويحل عام الخصب (1945) ليلتحق بالمعهد العالي للسينما في موسكو ويتخرج فيه عام 1951 حيث نهل من رجال السينما السوفييت الذين أدهشوا العالم. ولكي يرضي نهمه للصورة راح يتعلم في ستوديو كييف مساعداً لأستاذه (ايكور سافجينكو) الذي أحبه كثيراً طوال حياته.
في عام 1954 وضع إبهامه فوق أول عمل له (أندرييش).. خيال لا ينضب, كرة يحملها بين كتفيه تبعده عن السائد واليومي, يفكر في عمل جاد, لكنه يرتطم بجدار النظام الصارم, يخفي ضجره خلف ظهره ويمد يده الأخرى إلى منتِج حاول استغلاله :
– عندما بدأت العمل في فلم (الرجل الأول) اكتشفت ذلك, لكن رؤيتي للقرية الأوكرانية كانت أثيرة إلى نفسي, تعلمت فيها إيقاع الشعر وخارطة لجمال لا يُحد, حاولت أن أرسم ذلك فوق الشاشة, لكن الدسائس التي كانت تحاك ضدي أنهت كل شيء وأحالت صورة (ظلال الأجداد المنسيين) إلى نثار: آلات التصوير, النصب الرائعة, الرافعات. تناثر التبن في هواء الدسائس الأسود وأحاله إلى إبر تنغرز في قلبي المسكين, ولم أتعطل, أنا مخلوق للعمل وها أنا ذا: (دمكا 1958) و(ناتاليا أوزفي 1959) و( الأيادي الذهبية 1959), ثم الافلام الطويلة (الرابسودي الأوكراني 1961) و( زهرة فوق الحجر 1962). بإحساسه العالي طوَّح بالبائس بعيداً وبقي نقياً, ذات صباح أربعيني حدّث نفسه: أن تكون أو تبدل مهنتك, وأصر على البقاء بشكل يستحقه:
-إذا كان الفنان قادراً على الخلق وغير وجِل من نفسه بإمكانه أن يخلق صرحاً لحياته. ويحضر الأجداد المنسيون في عام 1964, هذا هو أول مؤشر له كي يتغلب على مشاعر الوحشة والألم ..
-يوم أن أحكمت قبضتي على قصة (كوتسبينيسكي) شعرت أنني عاشق لا مستقر له, كل شيء أمامي عظيم ورائع: الهارموني اللامتناهي, شعور غامر بالغبطة ولو إلى حين, الطبيعة تحتضن الفن، يحمل أدواته ويقارع, يحث الخطى حيث لا سينما قبله, يكتشف ويصرخ مندهشاً كطفل لاكتشافه, بل يكاد يجن لهذا الاكتشاف. لكن الطحالب تنمو أبداً في محاولة للالتفاف حول أعناق المواهب المتحررة, لم يفهمه كثيرون. أثناء التصوير صدم المصور (يوري أليانكوف) والممثلة (لاريسا كادوجونكوفا) بما شاهداه, ورفضا الاستمرار في العمل, لكنه في النهاية تمكن من إقناعهما. يوبخه مدير الأستديو أكثر من مرة أثناء تصوير مشهد واحد, وتأتي النهاية: لقد حصد الفلم 14 جائزة في مهرجانات عالمية مختلفة, أنعش الثقافة وأطرب النقاد في أنحاء العالم كافة, إنه فلم (ظلال الأجداد المنسيين).
حلَّق باردجانوف عالياً خارج السرب كعادته, لقد سبّب حضوره الطاغي ردة فعل كبيرة من قبل الستار الحديدي, إذ لم تكن أفكاره تتلاءم مع الوضع آنذاك, يخاطب عمال ستوديو كييف :
-إن مآسي عصرنا هذا تعود إلى تفكك الفنانين أنفسهم, كما أن قدراتنا لم تعطنا أي شيء, إنها كذب, وعقولنا صغيرة وذات ثقافة محدودة لا تعي الموسيقى ولا الأدب, وليس لدينا أي اهتمام جدى بالفن, إن مدير التصوير ومساعده ليست لديهم إلا قدرات محدودة جداً, وعليه فهما عبء ثقيل على الفن, لقد اعتدنا أن نحب أمراضنا ونكون عبيداً لها, وليس غريباً أن نستبدل جوهر الجيد بمواضيع بائسة, إن هذه الأمور تكاد تعصف بي.