شمران الياسري (أبو كاطع)رحيل في غير أوانه

كريم راهي/

يتذكّر الجيل الذي عاصر السنوات المبكّرة لثورة 14 تموز 1958، أن برنامجاً إذاعياً كان يقدّم من الإذاعة الرسمية للجمهورية الفتية تحت معرّف (إحجيها بصراحة يبو كاطع)، كان وراءه مُعدّ ومقدّم ذو وعي سياسي واضح

ولغة مُيّسرة جذّابة استطاع بها أن يستقطب اليه الشارع العراقيّ الذي كان قد خرج توّاً من تبعيّة بلاده للمعاهدات وهيمنتها عليه، وجعله يتحلق حول أجهزة الراديو في المقاهي والمنتديات الاجتماعية ليستمع إلى صراحته.

هذا الـ (أبو كاطع) لم يكن سوى فلاّح جاء من ريف الكوت إلى العاصمة، وهو يحمل مسبقاً حسّه الثوري المكتمل، ضمن موجة هجرة جماعية لفلاّحي قرى الجنوب الذين وجدوا أنفسهم فجأة وهم متحرّرون من ظلم الإقطاع الذي انتهى وانتهاء الحكم الملكي.

بانتظار موعد البرنامج

يقول أحد معاصريه من الكرد، أنهم كانوا ينتظرون موعد إذاعة ذلك البرنامج على الهواء بمثل ما كان عرب الوسط والجنوب يفعلون. هذا فضلا عن زاويته اليومية في جريدة (اتحاد الشعب) التي حملت عنوانا مماثلا: (بصراحة أبو كاطع)، وهو يتناول عمله الإذاعي ذاته، بطريقة العمود الصحفي.

انتهى البرنامج بعد سخط (الزعيم) حين ورد إليه أن الياسري قال جملة قد تكون فيها إشارة للزعيم نفسه من طرف خفي، وهي (الحصان هوه ذاك الحصان بس جلاله تبدل)، ولم يعد البرنامج يقدم بعد ذاك. وبعد فترة ألقي بأبي كاطع في السجن، مع من ألقي بهم من مثقّفين، لتوقيعهم على بيان (إحلال السلم في كردستان)، لكن بعد سنة أطلق سراحه وكان ذلك قبل وقوع انقلاب 8 شباط 1963 بفترة وجيزة، ليواجه خطراً من نوع آخر كان سيكلّفه حياته مبكّراً، فبادر إلى الهروب والتخفي في ريف الكوت في منزل عمّه (السيد مالك الياسري) الشخصية المعروفة.

رحيل في غير أوانه

شمران يوسف محسن الياسري، المولود في الكوت عام 1926، توفى في حادث سير ببراغ في مثل هذه الأيام (آب 1981) وشاع حينها أنه عمل مدبّر من المخابرات العراقية، فقد كان الراحل قد غادر جيكوسلوفاكيا إلى كردستان، مارّا بهنغاريا لزيارة ولده (جبران)، لكنّ مصيره كان الموت عند اصطدام سيارته بشجرة، لقد كان رحيلا في غير أوانه، نقل بعدها جثمانه ليدفن في لبنان في مقبرة شهداء المقاومة الفلسطينية، التي كان يعمل في صحافتها.
وعدا عن كونه إذاعيا وروائياً فقد كتب في الصحافة اليسارية العراقية كمجلة الثقافة الجديدة التي ترأس تحريرها لفترة، وجريدتي الفكر الجديد والتآخي، ثمّ طريق الشعب التي عاود فيها كتابة عموده اليومي الساخر (بصراحة أبو كاطع)، منذ عام 1973 لغاية اغلاقها 1979.

خلف الدواح

وكان بطلها شخص يدعى (خلف الدواح) وهو قناع كان يتخفّى وراءه كي يمكن له أن يقول من خلاله ما يُراد منه الإشارة إلى نقد الوضع السياسي الكائن آنذاك، وكثيراً ما تسببت هذه الشخصية بمتاعب تجرّ ويلاتها على الجريدة وصاحب الشأن. فكانت التحذيرات الرسمية تترى، والصحف السوداء تتصدّى للرد على تلك المواضيع.
كتب أبو كاطع في الرواية رباعية صدر أولها عام 1972، وتوالى صدور باقي الأجزاء ليكون بذلك أول روائي عراقي يكتب باللهجة المحكية عن ريف الوسط والجنوب، كانت عناوينها على التوالي: الزناد، بلابوش دنيا، غنم الشيوخ، وفلوس احميّد، وكانت تؤرخ لتطوّر الوعي السياسي في ريف العراق من بداية تأسيس الدولة ولغاية الحكم الجمهوري.

مدرسة في الكتابة

لقد خلق عمود (أبو كاطع)، برغم اختزاله، مدرسة في الكتابة الصحفية تميّزت بالمزج مابين الحدث الآنيّ والحكاية الشعبية، بين المرئي والمتخيّل، بين الحاضر وما يجب أن يكون عليه، بروح ثورية تصل غايتها في نفوس قرّائه بسهولة ويسر، فيما كانت تُشحذ ضدّه الأقلام المأجورة، للتقليل من شأن ما يكتب بحجة كونه عمودا صغير الحجم وكان يؤخذ عليه أنّه غير مكتوب بلغة (المثقّفين)، فيرّد عليهم أبو كاطع بحكاية صغيرة على لسان (خلف الدوّاح) ستخرسهم إلى الأبد، حكاية أتذكّر أن عنوانها (البطّة وأبو الزعر) أذكر منها أن البطّة فيما كانت تتبختر في مشيها على الحشائش، قفز أبو الزعر (وهو طائر صغير الحجم جدّاً) وصاح بها محذّراً إيّاها أن تدوس على بيضاته فتهشمها. فضحكت البطّة من كلامه وهزّت (بيدها) قائلة: تهيْ بهيْ، هو انته نفسك بالعين متنشاف، لعد بيضاتك شكبرهن؟ فأجابها الطائر المنكوب في الحال: هذنّي البيضات اللي تشوفين وحدتهن بكد الحمّصاية وتستهزئين بيهن، والله لو تدرين شلون عيوني يصيرن ارباع ارباع لمن أبيّضهن!

رحل شمران الياسري، وترك إرثاً عظيماً من الحكايات والأعمال الأدبية الأخرى، قد يكون من حسن حظّ العراقيين أنها متوفّرة للآن، وتسجّل رقماً لا يستهان به في المبيعات. فقد صدرت حكاياته عن خلف الدوّاح في طبعتين مختلفتين، وأعيدت طباعة رباعيّته لمرّات، فيما بقي محبّوه يتطلعون لإعادة طباعة رواية (قضية حمزة الخلف) التي لم تنل حظّها كباقي أعماله.