ارشيف واعداد عامر بدر حسون/
منذ أيام أصيبت بنت الشيخ زكريا أحمد في حادث السيارة التي وقعت في هاوية بالاقليم الشمالي وكتب لراكباتها النجاة من الموت.. وقبلها باسابيع فجع في أكبر أولاده في الوقت الذي كان الشيخ يتلهف فيه على مصير ابن آخر اختفى منذ ثلاثة أعوام ولم يعثر عليه.. أن الفنان الكبير يعالج في هذه السطور أحزانه – كما يقول- بالرضا والصبر.
الشيخ زكريا الموسيقار الحزين يقول: (أنا اللي يشتمني زي اللي يديني فلوس، لا الشتيمة لازقة ولا الفلوس قاعدة).
زكريا أحمد متشح بالسواد.. حزين.. فقد مات ابنه الأكبر يعقوب!.. كان زكريا أحمد يبحث طوال السنوات الثلاث الماضية عن ابنه احسان الذي اختفى فجأة في عام 1956، وكان عمره حينذاك 21 عاماً.. وفشل الشيخ زكريا في العثور على ولده الغائب.. هل هو حي؟ .. ميت؟!.. فقد ذاكرته وتاه في الوجود؟!
لم يتلق الشيخ زكريا جوابا عن هذه الأسئلة حتى الآن.. وبينما هو في حيرته، جاءه الناس يقولون له “البقية في حياتك يا شيخ زكريا”!.. وكان الفقيد في هذه المرة نجله لم يمت في حادث أو مرض، وانما انتحر، استقال من وظيفته الحكومية ليتفرغ للتأليف الاذاعي.. ثم رشح الى انتخابات القاعدة الشعبية في مصر الجديدة وكان يبدو مليئاً بالحيوية والاقبال على الحياة.. وفجأة قرر أن يضع حدا لحياته ويرحل عن الدنيا وهو بعد في السادسة والثلاثين من عمره!..
يقول الشيخ زكريا:
زارني يعقوب قبل انتحاره بيوم واحد، وقال لي أنه لم يعرف النوم منذ 22 يوماً، وأن الطبيب أمره باستعمال دواء منوم، وقبل أن ينصرف يعقوب الى بيته سألني عن آخر تطورات القضية المرفوعة مني ضد الاذاعة والسيدة أم كلثوم، فأخبرته أنها أجلت الى ما بعد العطلة القضائية.
وصمت شيخ الملحنين لحظة حزينة، ثم قال:
– وفي اليوم التالي وجدوه وقد فارق الحياة، وكانت بجواره زجاجتان فارغتان من الدواء المنوم.. وعثرت النيابة أثناء التفتيش على ورقتين، كتب يعقوب أحداهما يقول: “لعل الدار الآخرة هي التي فيها الشفاء»، وكتب في الورقة الثانية: «من أكبر ما دفعني الى الانتحار أن أبي مظلوم في الحياة”.
إن شيخ الملحنين الذي لا يباريه ملحن في نغمة “الصبا” الحزينة.. يعيش الآن في جو الحزن الغائم الذي تنوح فيه نغمات الصبا، وتكاد تذرف الدموع..
قلنا له:
* كيف تواجه الأحزان؟
أجاب في هدوء وتجلد:
– بالرضا….
* هل ظلمك بعض الناس الى الحد الذي جعل انك يفارق الحياة؟
ـ ………
* كيف تستقبل الاساءة؟
تململ زكريا أحمد، وهو يقول:
– اللي يشتمني عندي تمام زي اللي يديني فلوس.. لا الشتيمة لازقة ولا الفلوس قاعدة.. كله ضايع يا استاذ..
من زكريا الشيخ؟
لقد تجاوز الشيخ زكريا الستين من عمره ببضعة أشهر، وقد بدأ حياته الفنية منذ أكثر من أربعين عاماً، وضع خلالها 1800 لحن تقريباً، منها أكثر من ثلاثمائة سجلت على اسطوانات، وهو يعتبر بحق قاموساً فنيا متنقلاً وله ذاكرة فولاذية لا تنسى الاف الألحان. ومن الحانه التي لاقت نجاحاً كبيراً في فجر حياته:
ـ ما تخافش عليه دانا واحدة سجوريا
ـ حظر فظر راح اقول لك ايه
ولكن اللحن الذي اقام الدنيا واقعدها هو:
* ارخى الستارة اللي في ريحنا
احسن جيرانك تجرحنا
هذا اللحن غناه عبد اللطيف البنا ونعيمة المصرية ومنيرة المهدية كما غناه مطربو المزامير والطبل البلدي
وتعرض الشيخ زكريا لهجوم شديد من المتزمتين، والمحافظين بسبب تلحينه لهذه الأغنية، ولكنه لم يتألم الا عندما عاتبه الكاتب الكبير السيد مصطفى لطفي المنفلوطي، فأنكر زكريا أنه ملحن هذه الأغنية.
– قلنا للشيخ زكريا:
* وما أشهر الحانك الحديثة؟
قال:
– «الأمل» و»أنا في انتظارك” و”أهل الهوى” و”الاهات” وكلها أغاني أم كلثوم..
رأيه في المطربين والمؤلفين
قلنا للشيخ زكريا:
* ومن هم المطربون والمطربات الذين لحنت لهم؟
– كلهم.. من أول الشيخ علي محمود وصالح عبد الحي وعبد اللطيف البنا لغاية المطربين الشبان المعروفين اليوم، ولكني لم الحن لشادية ابداً
* وما السبب؟
– مصادفة مش مقصودة.
* وما رأيك في شادية؟
– كويسة. خفيفة وعايزة الحان خفيفة.
* وكم تأخذ أجرا في اللحن الواحد؟
– اذا كان للسينما آخذ 400 جنيه، واذا سجل في الاذاعة اخذ 150 جنيها واذا سجل على اسطوانة اخذ 200 جنيه، اما أم كلثوم فكان لها اتفاق خاص، وبعض المطربين لحنت لهم مجاناً لا اعجابا بهم فقط وانما شفقة بحالهم، ولن اذكر لك طبعا الأسماء، كنت أعرف ان المطرب باع اسورة زوجته ليدفع لي ثمانين جنيها فأردها اليه واعطيه اللحن مجانا
* وما رصيدك الان في البنوك؟
– ولا مليم.. رصيدي الستر
* والمؤلفون.. ما رأيك فيهم؟
– المؤلفون مثل الزهور.. كل واحد له رائحة، لكن الحق يدفعني الى أن اعترف بأن بيرم التونسي وبديع خيري في السماء وباقي المؤلفين في الأرض وبعضهم تحت الأرض.. لو شفت بيرم لا اضع يدي في يده لانه آذاني كثيرا، لكن الحق حق مفيش زيه ابن الجن ده..
زكريا يكتشف سيد درويش
* من هم المطربون الذين اكتشفتهم؟
– أم كلثوم والشيخ سيد درويش.. الشيخ سيد سمعت له دور عام 1917 تقريباً بيقول فيه:
وانا مالي هي اللي قالت لي
روح اسكر وتعالى على البهلى
كان لحنا سهلا ردده الشعب بسهولة، وسألت من يكون الشيخ سيد درويش فقيل لي انه يغني في الاسكندرية، فسافرت الى هناك وبحثت عنه فوجدته يغني في مقهى بلدي في حي اللبان، واخذت معي مصطفى رضا وصالح عبد الحي، وبعد شهور طفر سيد درويش طفرة كبيرة واقام مجدا مازال قائماً، وكل هذا المجد صنعه في ست سنوات فقد توفى الشيخ سيد في عام 1923 وعمره واحد وثلاثون عاماً.
* هل صحيح أنك ستمثل دور الشيخ سيد درويش؟
– أنا لا أمانع طبعاً، وقد تردد هذا الكلام كثيراً ولكن لم يصل الى مرحلة جدية.
* وأم كلثوم.. كيف التقيت بها؟
– في عام 1918 كنت “سهران” في رمضان في السنيلاوين عند علي بك ابو العينين تاجر القطن المعروف فعلمت أن هناك فتاة صوتها ممتاز وطلبوا مني أن اسمعها فسمعتها، واعجبتني فاعطيتها تواشيح كنت عاملها للشيخ علي محمود وعزمتني أم كلثوم في بلدها طماي الزهايرة، وعرضت عليها الحضور الى القاهرة وبدأ نجم أم كلثوم في الصعود حتى تربعت على عرش الطرب.
الخلاف مع الاذاعة
واستطرد الشيخ زكريا قائلاً:
– ظل الود قائماً بيني وبين أم كلثوم حتى اختلفنا في عام 1956، والواقع أن الخلاف كان بيني وبين الاذاعة، فقد وقعت عقدا مع الاذاعة عام 1926 ينص على أن اتقاضى 5% من جميع المطربين والمطربات وقراء الموالد على كل لحن يذاع لي ما عدا أم كلثوم وصالح عبد الحي فلا يذاع لهما لحن الا باذن كتابي مني.
ولم أكن انفذ هذا العقد بدقة مع جميع المطربين نظرا لمعرفتي بأحوالهم المادية، ولكنني كنت حريصاً على تنفيذه مع أم كلثوم بالذات، وطالبت الاذاعة مراراً فقالوا لي أنهم دفعوا ما استحقه لام كلثوم، ولما قلت لهم انهم لم يحصلوا على اذن كتابي مني، قالوا أن أم كلثوم قالت لهم أن الاذن موجود معها، فاسرعت الى القضاء خشية ضياع حقوقي وسقوطها بمضي المدة القانونية ورفعت القضية ضد أم كلثوم والاذاعة ومنذ عام 1951، وأنا اجري بين المحاكم والمحامين والخبراء، وقد انتدبت المحكمة الاستاذ محمد فتحي مدير معهد الموسيقى العالي واستاذ علم النفس ولكنه تنحى بعد فترة لانه انتدب للعمل في المجلس الأعلى للاذاعة ولم يرض لنفسه أن يكون خصماً وحكماً، ثم انتدب الاستاذ محمود علي فضلي الأستاذ بجامعة عين شمس ولكنه انتدب للعمل في ليبيا، واخيراً انتدبت المحكمة الدكتور محمود الحفني، والقضية مؤجلة حتى بعد الاجازات، وقد مرت عليها تسع سنوات أمام المحاكم.
قلت للشيخ زكريا:
* وما رأيك في أم كلثوم:
وقال وهو يتنهد:
– أم كلثوم خربت بيتي ولكن الحق حق، هي يا أستاذ تسوى رقبة اللي بيغنوا كلهم