ارشيف واعداد عامر بدر حسون/
في لقاء عابر وسريع جداً أصدر شيخ العرب سيد علي، الرجل الطيب، وصانع السروج فتوى دينية وأخرى وطنية!
الفتوى الأولى تودي بمخالفها الى الكفر والعياذ بالله، والثانية تصف من يخالفها بالخيانة الوطنية! تماماً كما هو شأن الأمور في أيامنا هذه! ومن الواضح أن سيد علي رجل أضر بمهنته التطور، المتمثل في انتشار السيارات وقلة من يركبون الدواب التي كانت شائعة في زمنه الأول،
ولم يستطع أن يجاري بمعمله المتواضع الاحتياجات الحديثة للسيارات وأصحابها فوقف على الأطلال يستعيد أمجاده الماضية ويستنتج من وحي مصلحته، أن ركوب السيارات حرام لأن جلود مقاعدها مصنوعة من جلد الخنزير! وأن الحكومة مقصرة، وطنياً، لأنها لا تحمي صناعته الوطنية من المنافسة الأجنبيةَ!
لا نريد، بإعادة نشر هذا الموضوع، أن نستذكر الفتاوى الدينية والسياسية الشائعة في أيامنا هذه أو التأمل في أسبابها بل نريد استذكار مهنة من مئات المهن التي انقرضت بانتهاء زمنها.
دعاني صديق الى حضور حفلة زفافه وقدم لي عنوانه، فإذا هو كالطلسم تحار في حلِّه العقول!
واهتديت الى حل الطلسم، أقصد الشارع، بعد بحث وتنقيب، ولف ودوران، فطالعتني على ناصية الشارع زفة حسبتها زفة صديقي العريس، فما أن قاربتها حتى وجدت في مقدمتها حماراً أنيقاً عليه بردعة جديدة “لنج” ووجدت بجوار الحمار رجلاً يوزع على المارة أوراقاً ناولني واحدة منها، ألقيت نظرة عليها فاذا مكتوب فيها:
اسمع اصول المجدعة
من الليل طول عمره جدع
حمار ومن غير بردعة
في الدنيا دي مالهوش نفع
حود على شيخ العرب
سيد علي واخيه رجب
وقوله عايز بردعه
حتلاقي جاهز والطلب
اسعار لطيفة ومعقولة
وحاجة حلوة ومشغولة
ومودة ع الذوق العالي
من بره اصلها منقولة!َ
وقد شفع هذا الرجل بقائمة لأسعار البرادع القطيفة والصوف المطرز وصفها صاحب البرادع بانها أسعار لا تزاحم!
ووجدتني، بغريزة الصحفي، أصرف نظراً عن زفة الصديق وأتبع زفة الحمير وقد شممت منها رائحة موضوع طريف!
انتهت الزفة الى حانوب صغير علقت على جانبيه برادع الحمير الحصاوي بألوانها الزاهية وموديلاتها المختلفة.
وألفيت في الحانوب جزاراً أحضر حماره “ليفصل” له بردعة بمناسبة حلول الشتاء.. ووقفت أشهد عملية “أخذ المقاس” وهي عملية خطيرة الشأن في عالم التفصيل..
وأمسك “ترزي الحمير” بمتر من الخشب ووضعه على ظهر الحمار ثم انحنى يقيس المسافة بين عنق الحمار ورجليه الخلفيتين، ودفعني الفضول لسؤال المعلم:
– ألا تصلح أية بردعة لأي حمار؟
ضحك الرجل من جهلي الفاضح، وتفحصني برهة ثم قال:
– البدلة اللي على حضرتك دي لو لبسها غيرك تيجي على قده؟
وكان جواباً مفحماً، ولكني داريت كسوفي بسؤال آخر:
– هل توجد برادع شتوية وأخرى صيفية؟!
ورفع الرجل رأسه وكان قد انتهى من اخذ المقاس وقال:
– انت حكايتك ايه؟! زبون؟! لا.. مش وش كده!
فلما قلت له انني صحفي، قال، بكل سلامة نية:
– تلزم خدمة؟! عاوز تهادي اصحابك؟
ولما وقف على نوع “الخدمة” التي أريدها شرع يحدثني عن أيام العز التي “تمرغ” فيها زمنا قبل انتشار السيارات. وقال ان المرحوم صالح لملوم باشا دعاه مرة الى عزبته في المنيا حيث قضى هناك شهراً كاملاً مع عماله يصنع البرادع والسروج لحمير الباشا!
ولاحت الحسرة على وجهه وهو يروي لي ان المرحوم حفني الطرزي باشا دفع له مرة أربعين جنيها ثمناً لبردعة واحدة!
وأخذت صانع البرادع الحميّة عندما ذكر أن كبار العمد ووجهاء الريف هجروا ظهور الدواب واستراحوا الى كراسي السيارات المصنوعة من جلد الخنزير.. وأكد أن هذا حرام بين!
ثم أبدى لي دهشته من أمر الحكومة التي تسكت على هذا الأمر الخطير وتترك السيارات، وهي صناعة “خواجات” تحارب صناعة وطنية كصناعة الـ”البرادع” وتفرض على أصحاب هذه الصناعة الوطنية، فوق ذلك، الضرائب الباهظة!
وطالبني، في ختام حديثه، بأن أنوب عنه في إبلاغ الحكومة هذه الشكوى المرة، إبقاءً على هذه المهنة التي لا غنى عنها لأصحاب الحمير فوعدته خيرا!
على الماشي
لا يوجد في القاهرة من محال صنع البرادع سوى أربعة محال في الخيامة، وتحت الربع.
يستغرق صنع البردعة من الصانع الماهر ثلاثة أيام. وتجرى “بروفة” قبل التشطيب النهائي لتلافي اخطاء المقاسات!
وكما يوجد هواة لجمع طوابع البريد والأقلام والكرافتات، يوجد هواة لجمع البرادع. وفي حي الخليفة نرى حرب ابن بلد، يقتني حمارين ويحتفظ لكليهما بخمس برادع ولجام من الفضة!
عندما زارت مصر جمعية البحث في الهواء الطلق الأميركية اشترى أحد أعضائها بردعة من القطيفة الحمراء بخمسة جنيهات لأن منظرها أعجبه.