ارشيف واعداد عامر بدر حسون /
اول قاضية في العراق، وواحدة من الرائدات هناك، في وجهها المضيء ملاحة، وسماحة وابتسامة تفيض بالرقة والتواضع، هذه هي ضيفة مصر هذا الأسبوع، الآنسة صبيحة الشيخ التي سعدت بلقائها “حواء” في جلسة قصيرة ولكنها حافلة.
إن حياتها تمثل في الواقع كفاح المرأة العراقية وثورتها وانتصارها، فقد كانت صبيحة الشيخ أول طالبة في أول مدرسة للبنات أقيمت في العراق سنة 1920، في تلك الأيام والبلاد ترزح تحت قيود الاحتلال، عارض الرجال بشدة إنشاء هذه المدرسة، ولكن والد صبيحة الشيخ أحمد الداود، كان في مقدمة المؤيدين للفكرة والداعين لها رغم قسوة المعارضين، ورغم الرسائل الكثيرة الخالية من التوقيع التي كانت تصل اليه كل يوم مليئة بالوعيد والتهديد والسباب. وعندما تخرجت صبيحة في هذه المدرسة كانت البلاد في حاجة الى المعلمات، فعملت مدرسة في نفس المدرسة، ثم تولى العلّامة العراقي الأستاذ ساطع الحصري وزارة المعارف فأنشأ أول مدرسة للمعلمات، وكانت صبيحة هي الطالبة الأولى فيها ايضاً، وللمرة الثانية في حياتها لم تكد تتخرج في هذه المدرسة حتى عُينت مدرسة فيها.
العباءة والنقاب في الحقوق
تقول صبيحة: في سنة 1935 كانت المدارس الثانوية للبنات قد تعددت في العراق، ولكن لم تكن هناك مدارس عالية لهن، فأخذت بعض الخريجات يسافرن الى الخارج، وخاصة الى بيروت، لاستكمال دراستهن، ولما كنت غير قادرة على نفقات السفر والدراسة في الخارج، فقد تقدمت بطلب لدخول مدرسة الحقوق، وأثار طلبي ضجةً واعتراضاً من الكثيرين، ولكن القانون لم يكن فيه نص يمنع ذلك، فانتصرت في النهاية وتحقق لي أن أكون أيضاً أول فتاة عراقية تدخل مدرسة الحقوق.
وكنت أذهب الى هذه المدرسة مرتدية العباءة والنقاب، وعندما أدخل الفصل أخلع النقاب وأبقى بالعباءة وكنت الوحيدة بين مئتي طالب كانوا يضايقونني ويرسمونني على السبورة بعباءتي ويكتبون تحت الرسم “المحامية الفاشلة” ويعقدون المناظرات لمهاجمة المرأة ممثلة في شخصي الضعيف!
وأذكر بهذه المناسبة أن أحد الأساتذة، وكان يدرِّس القانون الروماني، كان يقف في صف الطلبة دائماً ضدي، فانتهزت فرصة في إحدى المناظرات وقلت له: ليس غريباً على العقليات المتحجرة التي تعيش في قيود القانون الروماني أن تعارض رغبة المرأة في أن تتعلم وتتقدم.
وقد ظللت طوال سنتين هدفاً لمضايقات زملائي الطلبة وسخريتهم من رغبة المرأة في التعليم والتحرر من قيود الحجاب والجهل، ثم تعودوا بعد ذلك وجودي بينهم، ولكنهم ظلوا حتى السنة النهائية يتجمعون عند الباب كلما رأوني مقبلة في الصباح، ثم يحيطون بي على الجانبين في موكب يرافقني حتى أدخل الفصل وكأنني زائر بالغ الأهمية.
في ذلك الوقت كان معظم أساتذة الحقوق من المصريين، كان العميد هو المرحوم الدكتور محمود عزمي الصحفي المشهور، وكان مدرس مادة العقوبات هو الأستاذ عبد العزيز محمد رئيس محكمة النقض في القاهرة، وكنت الأولى دائما في امتحانات كل عام، حتى تخرجت سنة 1941 بدرجة الشرف ولكني منعت من الاشتغال بالمحاماة، لم أمنع رسميا بالطبع، ولكن رئيس الوزراء في ذلك الحين، وكان هو السيد رشيد عالي الكيلاني، عرض علي أن أعمل مفتشة في وزارة المعارف، فبقيت في هذه الوظيفة حتى سنة 1956.
خلال هذه المدة تخرجت فتيات كثيرات غيري في الحقوق واشتغلن بالمحاماة، فاشتغلت بها انا ايضا مدة شهرين ثم عرض علي منصب قاضية في محكمة الأحداث وكنت وقتئذ عضوا في اكثر الجمعيات العراقية النسائية، ووجدت أن مجال الخدمة في هذه الوظيفة أوسع منه في المحاماة، ققبلت الوظيفة، ومازلت فيها.
الجمعيات النسائية في العراق
وعندما سألنا الآنسة صبيحة عن عدد الجمعيات النسائية في العراق أجابت تقول:
* هناك عدد كبير من الجمعيات النسائية عندنا، أولها الاتحاد النسائي الذي أنشئ سنة 1945 ثم الفرع النسوي لجمعية الهلال الأحمر، وقد انشئ سنة 1933، وجمعية حماية الأطفال التي تكون الفرع النسائي فيها في سنة 1945، وجمعية بيوت الأمة التي تأسست سنة 1935، وجمعية مكافحة العلل الاجتماعية وقد انشئت سنة 1937، وجمعية البيت العربي لإيواء النساء والأطفال الذين يفقدون المأوى بسبب الكوارث والحروب، وقد انشئت سنة 1948، وجمعية الأخت المسلمة، التي بدأت نشاطها سنة 1951، ثم جمعية رابطة الدفاع عن حقوق المرأة، وقد اوقفت نشاطها حكومة “نوري السعيد” في العهد البائد ولكنها ظلت تمارس نشاطها سراً حتى قامت الثورة وتحررت البلاد.
أول الطريق
والكتاب الذي أصدرته صبيحة الشيخ في هذا العام وعنوانه “أول الطريق” يعطي صوراً معبرة عن الحركة النسائية. إن والد صبيحة الشيخ أحمد الداود، وكان مديراً للأوقاف يعتبر من أوائل الأحرار الذين ناهضوا الاستعمار، وقد تعرض للاضطهاد والنفي الى جزيرة “هنجهام” في المحيط الهندي، ولكن والدة صبيحة تلقت تلك الكارثة بشجاعة ورباطة جأش، وسارعت بإخفاء الوثائق الوطنية الخاصة بزوجها والتي جاء جنود الاحتلال الإنجليزي يبحثون عنها في كل ركن بالمنزل، فاستقبلتهم بجرأة واستخفاف واستطاعت ان ترغمهم على العودة خائبين.
ومن هذا الكتاب القيّم نعرف مدى التجاوب العظيم بين النهضتين في مصر والعراق. وقد قامت الثورة العراقية عام 1920 حيث خرجت المرأة العراقية الى الطريق لأول مرة لتقف مع الرجل جنباً الى جنب في كفاحه الوطني تماماً كما فعلت اختها في مصر.
وتاريخ المرأة العراقية بعد ذلك، يكاد يكون نسخة طبق الأصل من كفاح شقيقتها المرأة المصرية، فقد واجهت العراقية نفس الصعوبات لتحصل على حقوقها، وعندما تكوَّن الاتحاد النسائي في مصر سنة 1927 بزعامة هدى شعراوي تكون الاتحاد النسائي العراقي، والثورة المصرية الأخيرة اعطت المرأة المصرية حقوقها السياسية وكذلك الثورة العراقية الأخيرة اعطت المرأة العراقية حقوقها السياسية.
مشاكلهم ومشاكلنا
تقول صبيحة إنها الآن مشغولة بتأليف كتابين جديدين، كتاب عن “دور المرأة العراقية في الثورات” يبدأ بثورة 1920 وينتهي بالثورة الحالية، والكتاب الثاني اسمه “مشاكل الجانحين” اي مشاكل الأحداث في العراق ةالتي هي مشابهة لمشاكلهم عندنا ولا يوجد حتى الآن شيء غير “الاصلاحية” كعلاج للأحداث المنحرفين هناك، لكن الحكومة تعمل الآن لإنشاء الملاجئ والمدارس الخاصة بهم كما تُعد وزارة الشؤون الاجتماعية مشروعات جديدة.