ارشيف واعداد عامر بدر حسون /
إنها أيام جميلة مضت ولكن الزمن كان شديد القسوة عليّ، فقد أفقدني الكثير وكان آخر ما فقدت أثمن ما أملك.. لقد فقدت بصري ذكريات من الماضي الحافل بالذكريات
لقد عشنا ساعات ممتعة مع تاريخنا الفني، جلسنا فيها الى السيدة صديقة الملاية التي تحدثت الينا مدة طويلة. كانت العواطف تكتنف حديثها، وكانت تسترسل في ضحكة طويلة خارجة من الأعماق حينما تسرد علينا حكاية فكهة.. وتنخرط في بكاء مرير حينما تحيط بها الذكريات وتسرح الى عالم بعيد يمتد الى أربعين او خمسين سنة حين كانت تتربع على عرش الطرب فتلهب الأكف من التصفيق وتفعم النفوس بالمشاعر فرحة او حزينة. انها مغنية من الشعب مثلته أروع تمثيل ببساطة وصدق، فقد كانت تجمع في غنائها بين الفن البغدادي الأصيل المتمثل بالمقامات وبعض البستات وبين الفن الريفي.
في يوم 17 آب 1963 كانت (مجلة بغداد) على موعد معها:
* مساء الخير
– هلا يمّه
* اسمك الكامل؟
– صديقة الملاية
* والدك؟
– محمد
* عمرك؟
– 60 سنة
* لا ملاية أعتقد أكثر
– تريد الحقيقة 62
* قلت وأنا أضحك أيضاً: أكثر
– فقالت بعصبية: سجل 160
* ولا هذه، لكن لخاطرك سأسجل 70 سنة
وبعد أن أنهينا مشكلة السن سألتها:
* أين ولدت؟
– في بغداد محلة الفضل.
* ماذا كنت تعملين قبل اشتغالك في الغناء؟
– كنت اقرأ المواليد وعزاء الحسين في البيوت.
* وهنا اعتدلت الملاية في جلستها وقالت:
ذات يوم طرقت امرأة الباب عليّ وحينما فتحت الباب سألتني هل أنت صديقة الملاية؟ فقلت لها نعم قالت تعالي معي عندنا حفلة مولود، فارتديت ملابس الخروج وصحبتها الى محطة القطار فذهبت بي الى البصرة.
* ألم تسأليها أن المواليد لا تقرأ في القطارات؟
– نعم ولكن بعد أن تحرك القطار.
* هل انت متأكدة من الحادثة قبل السفر بر أو بعده.
– لا، قبل السفر بر.
* إذن هل أنت متأكدة من أن سفرك الى البصرة كان بالقطار؟
– نعم
* يقتضي هذا أن السفر كان بعد السفر بر.
وهنا وقعت الفنانة القديمة في نوع من فقدان الذاكرة، وبعد كلام فارغ حاولت الرجوع بها الى الوقائع فقلت لها:
* حسناً وصلت الى البصرة وبعد؟
– سافرت منها الى المحمرة الى الشيخ خزعل وبقيت عنده سنتين وهناك تعلمت الغناء، والظاهر أن الشيخ خزعل قد سمع بالسيدة صديقة الملاية فأرسل لها تلك المرأة التي استدرجتها الى هناك، واسترسلت الملاية في كلامها:
– لم أكن أعرف الغناء بصورة متقنة، وبعد وصولي الى المحمرة حضرت حفلة أقامها الشيخ خزعل غنّى فيها فريق من مغنّي الشيخ، وبعد الحفلة تعهدتني ملّة نعيمة بالتعليم وهي من مغنيات الشيخ خزعل وقد ماتت رحمها الله.
والحقيقة أن صديقة الملاية لم تسلَّط الأضواء الكافية على حياتها هناك وقد يكون تقدمها في السن سبب ذلك، ومهما يكن من أمر فقد تخلصت من الموضوع الى قولها: وفي ذات يوم جمعت حليي وملابسي وطلبت من نوتي أن يعبر بي شط العرب الى البصرة.
وفي البصرة اشتغلت في أحد الملاهي، وفي أمسية طلبت قهوة من خادم الملهى فجاءني بفنجان قهوة مرة لم أستطع استساغتها فلفظتها من فمي بسرعة ولكن السم كان قد سرى في جسدي.
* ألم
– نعم، لقد أراد الشيخ خزعل أن ينتقم مني لهربي منه فأغرى وكلاؤه في البصرة خادم الملهى فدسّ لي السم في القهوة. بعدها سافرت الى بومباي في الهند للتداوي والاستشفاء ولكن السم كان قد ترك آثاره فيّ، فقد تساقط شعر رأسي وحاجبي وأصيبت عيني وأوشك صوتي أن يذهب. وحينما عدت الى البصرة استأنفت عملي في الملهى وقد أقمت الدعوى على الخادم فسجن خمس سنوات، وفي البصرة سجلت عشر اسطوانات أذكر منها:
1. مقام بهيرزاوي
2. بوذية
3. دنخاك يلكاظم
4. مقام محمودي وغيرها
وحينما عدت من البصرة الى بغداد اشتغلت في ملهى السواس وفي مقهى عزاوي.
* كم كان أجرك الشهري؟
– 2500 روبية وبعد ذلك أصبح 250 ديناراً.
* ملّة صديقة لابد وأنك قد حصلت على أموال وافرة جراء اشتغالك بالفن الغنائي فلماذا انت الآن فقيرة فقراً مدقعاً؟
– هذا صحيح، لقد كنت أصرف ما أحتاج اليه، أما الباقي فكنت أنفقه على الفقراء.
* لقد سمعنا أن أحدهم اختطفك مرة من دار الإذاعة فهل هذا صحيح؟
هنا أطلقت الملّة ضحكة رنانة فربما نقلها السؤال الى أيام شبابها فقالت:
– نعم، كانت الإذاعة عبارة عن خيمة في الصالحية وكان البساتين تحيط بها من كل مكان وكنت جالسة على كرسي أنتظر دوري في الغناء وعلى ثروة من الحلي تقدر بآلاف الروبيات، وفجأة هاجمني بعضهم فدفعوني الى البستان وهمّوا بسلب الذهب الذي أتزين به فصرخت وعندئذ خف الى إنقاذي كامل أمين ففتح النار على اللصوص ونجوت منهم، وقد أغمي عليّ ولم أستطيع أن أقيم الحفلة تلك الليلة.
* هل صحيح أنك أول امرأة غنت من دار الإذاعة؟
– نعم
* تقولين في أغنية (للناصرية): “لتعنّه لبو عبيد وابجي بمضيفه يجعلها ضيفة او يرجعلي ساهي العين”، فمن هو ابو عبيد هذا؟
– الشيخ خزعل أمير المحمرة.
* هل كنت مغرمة به؟
– لا والله بل كنت قد خاويته.
* على كل حال إنك لم تتحدثي شيئاً مهماً عن السنتين اللتين قضيتِهما عنده.
– كنت أغني ثم أنني لم أعد اذكر شيئاً، لقد مر زمن طويل على ذلك.
* من كان ينظم لك أغانيك؟
– أنا!
* ما هو شعورك وأنت تسمعين أغانيك القديمة.
وهنا انخرطت الملاية في بكاء مرير وقالت وهي تغالب عبراتها: أبكي ولا سيما اذا سمعت اسطوانة (للناصرية)، أضع أصابعي في أذني وأهرب من الراديو.
* ما أحب اسطواناتك الى قلبك؟
– البهيرزاوي الذي أغني فيه (الدهر لو زل).
* أنت الآن تسمعين الإذاعة فمن هو أحب مطرب اليك؟
– يوسف عمر
* ومطربة؟
– عفيفة اسكندر
* ما هي المقامات التي تغنينها؟
– أغني جميع المقامات ولكنني مختصة بالبهيرزاوي.
* ما هو أحب زهيري الى قلبك؟
– الدهر لو زل يرجي بي حروبه علي والبين لملم جيوشه وفزع كل كومة علي تخسين يا غادرة انت وكومج علي
ما حسب ظني تراعين النذل أحسن
اني الجنت بين ربعي كالورد أحسن
استهون الموت كل ساعة واكول أحسن
أصعب من الموت كلمات النواكص علي
* هل لك أن تتحدثي لنا عن حياتك الغنية؟
– كنت أغني في الرصافة فيسمع صوتي في الكرخ وقد سمعوني في بغداد ايضاً.
* هل تزوجت؟
– نعم
* ما اسم زوجك
– مهدي بن خضير
* عمله؟
– موظف، وقد حملت منه وبعد بضعة أشهر من زواجنا قتل في دائرته وقد أنجبت ولداً انتزعه مني أهل والده بعد بضعة أشهر من ولادته.