عبد الزهرة زكي/
قبل أيام مرّ اليوم السنوي للغة العربية، وهو يوم يمرّ عادةً من دون أي جهد مقدم من قبل أية جهة بما يمكن أن يخدم اللغة العربية التي تواجه تحديات جدية شأنها في هذا شأن العرب أنفسهم وما يواجهون من أخطار وتحديات. في ذلك اليوم الذي صادف مرور اليوم السنوي للغة فيه، حصلت هذه الواقعة في بيتي، وهي صورة مفيدة عن جانب من مشكلات اللغة العربية في حياتنا المعاصرة أو هي بتعبير أدق صورة واضحة عن سوء عملنا جميعاً،
بشراً ومؤسسات، تجاه ليس (اللغة العربية) حسب وإنما أيضاً تجاه أساليبنا في التعليم وما تتركه من أثر في تربية الأطفال وإعدادهم للمستقبل.
في هذه الواقعة كان حفيدي ليث بلال (الأول الابتدائي) يذاكر بمساعدة أمه دروسه، وقد تصادف أن مررت بقربهم فأثار انتباهي انشغال أم ليث بتوضيح ما لا يمكن توضيحه لطفل بعمر ليث، كانت المشكلة هي في (تنوين) الضمة والفتحة والكسرة في أواخر الكلمات التي تضمنها منهاج القراءة المعد لتلاميذ هم في سنتهم التعليمية الأولى.
لقد سمعت يتساءل ليث بلال (الأول الابتدائي) يتساءل:ليش كلمة (زورق) مكتوبة بالقراءة مرة (زورقٌ)، ومرة (زورقاً)، ومرة ثالثة (زورقٍ)؟
ووجدته بعد هذا يتساءل أيضاً: زين بامتحان الإملاء شلون أكتبها؟
بالتأكيد لن تحاول أم ليث تعليم ليث القاعدة النحوية التي توجِب التنوين، هذا مستحيل، لكنها حاولت إفهامه باعتماد الصوت لمعرفة أين يمكن أن يضع كلّ حركة من حركات التنوين عند الكتابة حسب ما نلفظها عليه.
لم أقتنع حقيقةً بما تطلبه الأمّ من ابنها، أدرك تماماً أنها مضطرة لهذا، وإلا فما الحل؟ لكن كيف لتلميذٍ بهذا العمر، وبلا أيّ تدريب لغوي سابق على التنوين في كلامه اليومي، أن يدرك الفارق الصوتي بين تنوين الضم وتنوين الفتح أو الكسر؟
ما لم يدرك الطفل الفارق الصوتي لن يدرك حتماً الكتابة الدقيقة للكلمة؛ سيضظر إما إلى (درخ) الكلمة كما مكتوبة في سياق جملة معنية، وإما إلى اعتماد (الحظ) في مصادفة الكتابة الصحيحة للكلمة المنونة المطلوبة كتابتها.
ليث طفلٌ نبيه وشاطر، لقد ظلّ ذلك اليوم منزعجاً جداً حيث لم يجد جواباً مقنعاً لتساؤلاته. الجواب المقنع هو أن يعرف وأن يحفظ ما يعرف، فيما هو لم يعرف شيئاً عن (التنوين) و تبعا لذلك لم يحفظ شيئاً. كلّ حفظٍ بلا معرفة يظل عرضةً للنسيان.
هذه مشكلة لغةٍ ظلت تعاني اهمالاً في تدريس الناطقين بها وأساليب تعليمهم إياها، كما تعاني فشل المجتمع، عبر مؤسساته، في الوصول إلى نتائج تساعد في الوصول إلى حلول لمشكلات تعانيها اللغة ويعانيها المجتمع مع اللغة وهي أكبر من هذا التبسيط الذي نحن فيه.
لكن، وبمنظور تربوي واقعي، قد لا تكون هناك مشكلة أكبر من مشكلة تعليم الطفل اللغةَ ومن تأسيس جيد أو سيئ لإنشاء أول صلة دراسية للطفل باللغة.
اللحظة التي يبدأ بها الطفل كراهيةَ درس اللغة تبدأ معها كراهيته للغة نفسها، أليس لدينا قول عربي مأثور يفيد أن الإنسان عدو ما جهل؟ والواقع هو أن الجهل (والتجهيل المستمر) بالعربية هو أساس الخوف منها من قبل التلاميذ وغير التلاميذ، إنه خوف يفضي إلى الكراهية ومن ثم إلى الامتناع عن التعلم الصحيح لاحقاً. ولعل (العربية) ظلت في الغالب ضحيةً للدروس والتعليم السيئ.
من الصحيح أن العلوم، بموجب هذا المنظور، ستكون كلها ضحيةً للتعليم السيئ، وليست (العربية) حصراً، لكن مشكلة اللغة أكثر تعقيداً وأشد خطراً من حيث صلتها بوسيلة العلوم الأولى ووسيلة العيش والتعايش، إنها المشكلة التي تخلق مشكلات.
هذه بالتأكيد ليست مشكلة معلم أو معلمة في التعليم، مع أهمية دورهما وحسن إعدادهما وتأهيلهما نفسيا وتربويا وعلميا وحتى اقتصاديا، ولا هي مشكلة منهاج مقرر يمكن بتغييره أو تعديله يستقيم كل شيء. إنها مشكلة نظام تعليمي وهي مشكلة لا يمكن فصلها عن نظم التربية السائدة في الحياة الإجتماعية.
هذه التوسعة التي نضعها هنا للمسؤوليات ودواعي المشكلة عادةً ما تكون تسخدم بالضد من إرادة البحث عن حلول عملية، إنها وسيلة للتهرب من تخليق فرص الحل.
أحياناً يمكن أن نصادف حلاً من فرد في المكان الذي يكون فيه، من معلم يجتهد ويحب عمله وتلامذته فيبتكر حلولاً أو يهيئ ما يمكنه من جو نفسي إيجابي يساعد على التعلم. لكن الحلول الجذرية تظلّ منوطة بالمؤسسات وبفلسفة الدولة وبقدرة الحكومات على تأمين إدارات بمستويات مختلفة لترجمة هذه الفلسفة كإجراءات عملية.
ربما كان الطفل ليث محظوظاً بمعلمة مخلصة لمهنتها ونجحت في أن تجعل تلامذتها مشدودين لمدرستهم وراغبين بالتعلم. لكن ليث أوفر حظاً مع أم تحمل بكالوريوس باللغة العربية ولم تجد من المناسب أن تدفع رشوة من أجل الحصول على وظيفة التدريس، هكذا بقيت في البيت، وهكذا ساعد هذا الحال في أن يكون لليث معلم خصوصي في البيت هو أمه. لكن ماذا عن مئات الآلاف من التلاميذ الذي قد لا يجد معظمهم من يساعده على التعلم في البيت، وحالياً يتحمل البيت القسط الأعظم من مسؤولية تعليم الطفل؟
أسوق هذا التفصيل لتأكيد أن مشكلة التعليم لم تعد وقفاً على مشكلة تعليم العربية وإنما هي مشكلة أكثر تعقيداً بحيث نستطيع القول وبقلق كبير أن طرائق التدريس والحياة في المدرسة خارج العصر تماماً.
وليس بعيداً عن الحقيقة أن نعود ونقول إن الانشغال بمشكلة مثل مشكلة التلميذ ليث مع (تنوين) أواخر الكلمات التي تستحق التنوين هي مشكلة تبالغ في بطرها، وتبدو كما لو أنها قادمة من عالم آخر غير العالم الذي تجري فيه الحياة التعليمية لدينا.
مع هذا سأظل بحدود اللغة العربية واتساءل عن جدوى هدر الأموال والجهود والسنوات الضائعة من أعمار التلاميذ والطلبة وحتى أعمار مؤسسات التعليم والموظفين المعلمين والمدرسين فيها إذا ما أجريت اختباراً لعينة عشوائية ممن أكملوا الابتدائية والمتوسطة والثانوية للتأكد من سلامة تكلمهم العربية نطقاً أو نحواً أو املاءً أو فصاحةً.
سأختم بواقعة ما دمت بدأت بواقعة، الواقعة التي نختم بها تعود إلى عام 2000، وكان مكانها (بيت الحكمة) في بغداد، حيث ملتقى نخب أكاديمية متخصصة معظمها بمجالات تفرض عليها أن تكون دقيقة في اللغة العربية. هذه الواقعة رواها لي في حينها زميل كاتب موثوق وأمين بما ينقل ويقول، كان عائداً من حلقة دراسية عقدها (بيت الحكمة) وكان بين الحضور رجال دين من بلدان كثيرة كان من بينهم رجل دين غير عربي، وكان جالسا جنب الزميل راوي الواقعة. يقول الزميل:
ــ كان الرجل جنبي صامتاً متأملاً طيلة الجلسة، كان كثيراً ما يعبّر من دون إرادة منه عن دهشة وصدمة وانفعال يجاهد من أجل أن يسيطر عليه كلما كان أحد المتحدثين، وكلهم من كبار المختصين الأكاديميين، يخطئ في اللغة أو يلحن فيها. وشاءت المصادفات أن لا يكون بين المتحدثين من لم يرتكب الفظائع بحق اللغة. لم يستوقف هذا أحداً، حتى بدا الأمر كما لو أن ما يحصل هو الصواب وهو المعتاد الذي لا يدعو إلى استغراب. ولذلك التفت نحوي رجل الدين غير العربي ومن دون أن يبدي استغراباً، تساءل فقط بألم:
ــ ألا تدرسون (العربية) في مدارسكم بالعراق؟
ولم يجد الزميل الراوي ما يرد به على سائله سوى أن يشاركه صمته وألمه وحيرته.
لقد حصل هذا في (بيت الحكمة)، ولك عزيزي القارئ أن تقف عند دلالة هذه التسمية في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية في بغداد العباسيين.