عبد الجبار خلف/
حين سألت المؤرخ عباس بغدادي (1923- 2007 ) صاحب الكتاب الشهير (بغداد في العشرينيات) عن يوم من عمره لا ينساه، لم يبحث طويلاً بين أيامه ولم ينبش كثيراً في ذاكرته، فكان اليوم الذي ذكره واقفاً على عتبة باب ذاكرته التي تراكمت عليها الأحداث والحوادث بالأيام والليالي،وحين طلبت أن يحدثني عنه بالتفصيل قال: أنه يوم من أيام صيف عام 1944، وأذكر أن ليلته كانت ليلة عيد الأضحى وهو اليوم الذي خرجت فيه من سجن (نقرة السلمان) في صحراء السماوة، وما كان عندي أي أمل أن اخرج خاصة أن الحرب العالمية الثانية كانت مشتعلة.
ثم راح بغدادي يتحدث عن التفاصيل قائلاً: بعد اشتراكنا في ثورة مايس عام 1941 ولأنني من أصدقاء رشيد عالي الكيلاني ويونس السبعاوي، فقد لاحقتنا السلطات وجرى اعتقالنا الذي انتهى بنا سجناء في نقرة السلمان لمدة أكثر من ثلاث سنوات، وأذكر أن في هذا اليوم جاءني مفوضا شرطة وهما يعملان في اللاسلكي وقالا لي (يا عباس .. لقد جاءت برقية باطلاق سراحك، وأن الذي اطلق سراحك هو وزير الداخلية، فما أن سمعت (فكوا سراحك) حتى ذهلت ولم أصدق، فقد كانت مفاجأة ليس لي فقط بل لكل المعتقلين، وكنا 14 شخصاً بالتهمة نفسها، ولا أستطيع حينها وصف شعوري تلك اللحظة، وصدقني ولا في أي يوم من أيام حياتي تمكنت أن أصف ما كنت عليه في تلك اللحظة، فقد رحت في حالة من الذهول وأنا أتساءل: هل صحيح أنني سأخرج من هذا السجن الواقع في الصحراء؟
وأضاف: فما أن ابلغني المفوضان بالخبر حتى هرعت ألملم حاجياتي للمغادرة بسرعة، ولم تكن هناك مواصلات سوى السيارة المسلحة التي اوصلتنا الى السماوة، وهناك جاءت شرطة البادية وقالوا (لا تروح الان، انت معزوم هذه الليلة عندنا،لا بد ان نعمل لك حفلة توديع)، فسهرت معهم وبت ليلتي عندهم، وفي الصباح اوصلوني الى محطة قطار السماوة لاصعد القطار الذاهب الى بغداد، وقد كان القطار ممتلئاً جداً بالجنود، فبقيت واقفاً على قدميّ من السماوة الى بغداد التي وصلتها صباح العيد، فرفعت رأسي انظرها، كنت أعاين المباني وأنظر في وجوه الناس كأنني لم أر بشراً من قبل، وأنا غير مصدق أنني خرجت من النقرة لاسيما أن الأخبار كانت تقول أنهم لن يخرجوننا إلا اذا انتهت الحرب العالمية الثانية، لم أصدق حتى وصلت البيت واسترحت وشربت القهوة.
وختم بالقول: هذا اليوم يمثل لي فرحة العمر لايمكن أن يغيب عن بالي.