عريان السيد خلف .. تخرجُ القصيدةُ من بين يديه كرغيفٍ ساخن

جمعة الحلفي/

حين تصبح هموم الإنسان وتطلعاته وأسئلته الحارقة، جزءاً من هموم وأسئلة الشاعر، تصبح القصيدة رغيفاً ساخناً يمدّ الناس بالقوة والأمل والشجاعة وطاقة الفعل الخلّاق. وحين يصبح الشعر، أو الكتابة الشعرية، فعلاً وجودياً ومصيرياً، يكون الشاعر قد تأصل إبداعياً وأصبح مثل فرّان بارع يعرف بالضبط، لا قبل ولا بعد، متى تكون القصيدة قد نضجت، فيمدّ يده في كوّة النار ليخرجها طازجة مثل ذلك الرغيف الساخن.

هكذا هو عريان السيد خلف، من أولئك الشعراء الذين يتحول تراب الكلمات بين أيديهم إلى سبائك من ذهب المعنى، على خلاف اؤلئك الذين يحاولون معالجة الكلمات ذاتها فلا يسفر عنها سوى غبار الصنعة.

الباحث في التراب عن ذرّات الذهب

وبين الشعراء، الذين ينتمي عريان السيد خلف إلى سلالتهم، وبين أولئك الذين يرتدون أقنعة الشعر، فروقات كثيرة قد لا تُرى بالعين المجردة، فصنّاع الشعر الحقيقي يتمتعون بجينات وراثية تمتد بهم إلى نسغ الأزهار والطيور ومنابع المياه العذبة وأشجار اللوز وغابات الحكمة ومكابدات العشاق الأوائل. إنهم، باختصار، يشبهون أولئك الذين يغربلون مياه الأنهار النازلة من جبال الألماس بحثاً عن ذرات الذهب في ذلك الرماد الليلكي الوهّاج، فيما تتوقف سلالة مدّعي الشعر عند مواهب مهرّجي السيرك ونُدل الاحتفالات المبتذلة وبائعي الكلمات البخسة وناشري الأكاذيب ومروّجي الترهات.

لم يفرّط بقيمة ومكانة القصيدة

لقد فرّط العديد من الشعراء، خلال العقود السالفة المظلمة، التي مرّ بها العراق، بمكانة وقيمة الشعر، على منصات الخطابة والمديح الرخيص، فأنزلوا القصيدة منزلة الحضيض، طمعاً بمال أو جاه، أو خشيةً من بطش السلطة الديكتاتورية وتجنباً لأذاها، فيما ظل عريان السيد خلف، بين قلّة من المبدعين، قابضاً على جمرة الشعر، أميناً على مكانة القصيدة وقيمتها الإبداعية ورسالتها الإنسانية والجمالية الخلاقة.
لهذا ظل عريان يصنع الشعر من تراب الكلمات، معبّراً عن هموم الناس وآلامهم وأحزانهم وأسئلتهم الحارقة، ومدوناً مظالمهم وفصول قهرهم وفواجعهم، غير عابئ بمال السلطان أو سيفه، ولا بجاه السلطة ونعيم مناصبها. ولهذا أيضاً احتفظ الناس بقصائد عريان السيد خلف بين شغاف قلوبهم ودفء أفئدتهم، مثلما كان عريان يحتفظ لهم برغيف الشعر طازجاً وساخناً، يمنحهم الأمل ويبث في أرواحهم الشجاعة والطاقة على المكابدة والصبر.

قصائدهُ مترعةٌ بهموم الناس

فمنذ مطلع الستينات احتل عريان موقعه الرفيع في عالم القصيدة الشعبية الحديثة، مقتفياً أثر النوّاب في معالجته الريادية لفن الكتابة الشعرية، خارج نطاق التقليد والمقاربات السطحية، وراسماً جغرافيته الخاصة على خارطة تلك القصيدة. ومنذ ذلك الوقت أيضاً تلقّف عشاق الشعر ومريدوه، قصائد الحنين والعشق المشبوب، التي خطّها عريان، وكانت تنتشر بين أوساط الناس كما ينتشر غبار الطلع في مواسم الربيع. ولم تكن تلك القصائد مجرد مطولات من البكاء على أطلال التجارب العاطفية، كما كان يفعل شعراء التقليد من محدودي الموهبة، بموضوعات الشعر ووظائفه، بل كانت قصائد محملة بالرموز والإحالات والمناخات، الاجتماعية والروحية، التي تمزج بين موضوعة العشق وبعدها الجمالي والإنساني، وبين صورة المعشوق وعطره اللافح. وكما هو في هذا المضمار، شاعرٌ من طراز خاص، كان كذلك في ميدان القصيدة السياسية المترعة بهموم الناس وتطلعاتهم ومشكلاتهم الإنسانية والوجودية. وهكذا، من قصيدة (ردّي ردّي) حتى قصيدة (جيفارا) ومن مجموعة (الكمر والديرة) إلى مجموعة (تلّ الورد) ومن منتصف القرن حتى مطلع الألفية الثالثة، كان عريان السيد خلف وما يزال شاعراً مرموقاً وصوتاً عالياً في ميدان الدفاع عن الجمال والصــفاء والكلمة الحرة.