عنيسي الفياض أول صائغ صابئي في بغداد: صنعت سيف ملك السعودية وذهبت لإيطاليا لتقديم هدية لملكها!

ارشيف واعداد عامر بدر حسون/

بدت الحيرة على وجه صديقي حالما انتهى من تلاوة الرسالة التي حملها البريد إليه. فتطلعت إليه بنظرات متسائلة… فقال:

هاي هم أغاني مشكلة جديدة:

تعرف هاي الرسالة منين؟

فهززت رأسي علامة النفي فقال:

إنها من صديقي صلاح.. الموجود في لندن حالياً..

– شكو بيه صلاح؟

* تزوج انكليزية..

– وشنو يعني؟

فقال وهو يشد على كل كلمة..

هذا معناه أن أقوم بالواجب وأرسل له هدية مناسبة.. أي أن ميزانيتي للشهر القادم ستختل قال ذلك ثم مد يده الى علبة السيكاير واشعل سيكارة.. ثم راح يتحدث عن نفسه بصوت مسموع..

اي لو متزوج عراقية هم جان نكدر نكظيها بهدية بسيطة متزيد على الاسبوع ثلث دنانير؟

– يعني تكدر تستغني عن هذا المبلغ دون أن تتأثر ميزانيتك؟

أي.. اكدر

زين.. اني ادليك على هدية مناسبة ما تكلفك أكثر من ثلث دنانير.. وأعتقد انها أحسن هدية بالنسبة للأوروبيين.. وتسوه عشرات الدنانير..

قفز صاحبني وترك كرسيه واقترب مني..

آني ببختك.

دزلة مصوغات فضية

وفي اليوم التالي صحبته الى سوق المستنصر المحاذي لشارع الرشيد
وكان مازال مترددا في قبول فكرة شراء مصوغات فضية حتى شاهد بعينه الأوروبيين من الجنسين وهم يقفون امام واجهات محال الصاغة من الصابئة.

ما ان اقتربنا من محل صغير حتى اشرأبت نحونا أعناق ثلاثة من الصاغة المرسلة لحاهم على الصدور.

*نعم؟

قالها أكبرهم سناً وهو يتكلف ابتسامة رقيقة..

فتجاهلنا كلمة “نعم” هذه واخذنا نجول بأعيننا بين الحلي الفضية المعروفة في –الجامخانه-.

وكرر الكهل كلمة “نعم؟

بعد ان لاحظ شروعنا بمغادرة المحل..

*والله دنتفرج..

وما أن سمع هذا الجواب حتى عاد الى مزاولة عمله.. فامتدت يده الى المنفاخ ثم امسك بمطرقة صغيرة راح يدق على سيف صغير.
كانت حوانيت الصاغة متشابهة تشابه لحاهم المرسلة على صدورهم.. وكان أغلبهم يزاولون أعمالهم جالسين على الأرض..
توقفنا في محل كبير نسبياً.. وأخذنا نتطلع الى المصوغات فوقع نظري على أقراط فضية جميلة الصنع وقبل أن أطلب من الصائغ اخراجها امتدت يده إليها ووضعها على زجاج –الجامخانه-فعجبت لذكائه.. كان يبلغ الأربعين من عمره.. وقد اختفت ستارة من الكآبة وراء ابتسامته المتقطعة.

*شكد سعرها.. بدون معاملة؟

-دينار الا ربع.

*أقل ميصير؟

-بلى.. جيب سبعمية فلس.

-ميصير عيني.. وخطفها من يدي.

وأخيراً دخلنا محلاً كبيراً نسبياً كان المحل ينقسم الى قسمين في القسم الأول واجهة عرضت فيها مصوغات فضية وفي الأخرى عرضت مصوغات ذهبية..

واستقبلنا شاب في العقد الثالث من عمره كان يجلس وراء منضدة نظيفة..

*تفضلوا

وفي الحال شرحت له قصة صديقي والحاجة التي نبحث عنها.. فأجاب وهو يبتسم:

*هذه القصة تتردد على مسامعنا كل يوم وأردف قائلاً:

*الحقيقة أننا هنا من أجل هذه المناسبات.. إننا نبيع الذهب للعراقيين والفضة للأجانب..

-لماذا يميل الأجانب الى الفضة؟

*الأجانب يميلون الى الصناعات المحلية الشرقية بصورة عامة وصياغة الفضة ودقة صنعها في العراق تجذبهم إلينا.. وهم يدفعون كثيراً من أجل الحصول على أمثال هذه الصناعات.. إنهم يتحرقون شوقاً الى صورة الجمل “منقوشة” على خاتم فضي.. ويفتنون بجمال الأساور والأقراط.

*هل أفهم من هذا أن الفضة نادرة في بلادهم؟

-لا.. ربما كان سبب اقبالهم على الفضة في بلادنا وفرة الذهب في بلادهم.

كان ثلاثة من العمال ذوي اللحى يعملون بصمت وهدوء وينظرون إلينا بين آونة وأخرى ثم يتهامسون.

واقتربت من صورة تمثل صاحب المحل وهو يمسك بسيف جميل جدا فردد صديقي قائلاً

*إنه سيف جميل. هل صنعتموه في هذا المحل؟

-نعم.. قالها بفخر واعتزاز ثم اردف قائلاً:

-هذا السيف اهداه جلالة الملك فيصل الثاني الى جلالة الملك سعود بن عبد العزيز سنة 1953 وهو مصنوع من الذهب ومطعم بالماس وقد كلف حوالي الخمسة عشر ألف دينار واستغرق العمل فيه حوالي الشهر. كان أبي الصائغ الخاص لصاحب الجلالة الملك فيصل الأول. وقد حاز على ثقة جلالة الملك عندما استطاع أن يصنع سيفاً حجازياً رائعاً.

*وأين أبوك؟ أهو واحد من هؤلاء الثلاثة هناك؟

-أبي في البيت منذ اليوم الذي استلمت فيه الشهادة من كلية التجارة والاقتصاد.

*لماذا لم تتوظف؟

-الوظيفة عمل روتيني.. وقد زاولتها فترة من الزمن ثم تركتها الى غير رجعة.
واقتربت من صورة أخرى معلقة الى جانب الصورة الأولى.. وقبل أن اسأل عن الصورة قال:

*هذه الصورة التقطت في ايطاليا وهي تمثل ملك ايطاليا السابق وهو يتسلم الهدية التي قدمناها اليه هناك.

*كيف ذهبت الى ايطاليا ولماذا؟

اشتركت في معرض الصناعات الدولي الذي اقيم في “باري”
وكانت مصاريف السفر على حساب المفوضية الايطالية في بغداد.. وقد لاقت هذه الصناعة “الصياغة” اقبالاً منقطع النظير واستطعنا أن نبيع كميات كبيرة منها هناك.

*كيف وجدت أهل ايطاليا؟

-إنهم قوم مهذبون.. ولكنهم يجهلون عنا الشيء الكثير.. تصور بعضهم كان يسألني عن عدد زوجاتي، والبعض الآخر عن نوع الملابس التي نرتديها، وعما اذا كنا نرتدي الملابس الافرنجية، وطلبت مني احدى الفتيات أن اتزوجها لأنها تتمنى حياة الخيمة والصحراء؟

*وهل ذهبت الى البندقية؟

-إنها أجمل مدينة في ايطاليا كما اعتقد.

واشرت الى صورة أخرى معلقة في الجانب الآخر فقال:

*انها صورة والدي عنيسي الفياض.. أول صائغ من الصابئة فتح محلاً لصياغة الفضة في بغداد.

*ما هو المصدر الذي تعتمدون عليه في الحصول على الفضة؟

-النقود القديمة والسبائك الفضية.

*ما هو أثمن معدن بعد الذهب؟

-الماس بعد اليورانيوم.

*لاحظت أن بعض محال الصاغة اخذت تجمع في السنين الأخيرة بين الفضة والذهب فما هو السبب؟

-كساد تجارة الفضة.. إن الصائغ الذي يعتمد على الفضة وحدها يظل مكتوف اليدين فلا يستطيع أن يحقق شيئاً لنفسه ولعائلته.
صياغة الفضة كانت لها سوق رائجة.

اما الآن فأكثر الآباء لا يرغبون في “تعليم” هذه الصناعة لأولادهم كالسابق إنهم يفضلون الوظيفة على هذه الصناعة.

*اشكرك على هذه المعلومات.. مددت له يدي سحبت صديقي الى الخارج..