عبد الجبار خلف /
حدثني الشاعر عيسى حسن الياسري عن اليوم المميز من حياته والذي مازال على طرف من ذاكرته المشار اليه بعام 1960، فقال: كان والدي، رحمه الله، قد علمني القراءة والكتابة وحفظ الشعر ولي من العمر اربع سنوات.
بعد أن أنهيت السنة الرابعة في مدرسة القرية أغلقت المدرسة، فأرسلني والدي إلى مدرسة (ناحية الكميت). كان عليّ أن أسكن عند عائلة صديقة لعائلتنا.. كان عمري آنذاك عشر سنوات.. بت عندهم ليلة واحدة لم انم فيها حتى الصباح.. كنت أبكي بصمت لأنني ابتعدت عن أهلي.. وحكايات جدتي التي ترويها لي قبل النوم.. في الصباح حملت كتبي وكأنني ذاهب إلى المدرسة.. لكنني أدرت وجهي للمدينة.. وعدت راكضا إلى قريتي.
واضاف: حاول والدي أن يعيدني إلى المدرسة ولكنني رفضت العودة إليها لأنني لا أستطيع أن أفارق أهلي وقريتي وأصدقاء الطفولة.. لذا أخذ والدي على عاتقه أن يقوم بتدريسي.. لا سيما في مادة اللغة العربية. كانت لديه مكتبة لاتقدر بثمن أتت عليها النار بعد حريق القرية وأكواخنا .. فحاول أن ينشئ مكتبة جديدة تتكون في معظمها من الكتب الحديثة.. وقد خصني بما يتلاءم ومرحلتي العمرية، فكان يجلب لي قصص الاطفال، ومن ثم قصص الف ليلة وليلة والمياسة والمقداد وروايات (جرجي زيدان) وروايات المنفلوطي المترجمة، واخذ يختار لي بعضا من أبيات الشعر من المعلقات.. وعصور الشعر العربي المختلفة.. كما أنه كان مشتركاً في أكثر من مجلة أدبية من بينها – مجلة الآداب – التي كان يرسلها له صاحب المكتبة العصرية في العمارة (عبد الرحيم الرحماني) إلى ناحية الكميت، كنت اقرأ قصص مجلة الآداب .. والقصائد التي تنشر فيها.. وعندما تعجبني إحدى القصائد أشطب على اسم الشاعر وأكتب اسمي بدلا منه.. لقد حفظت الكثير من قصائد الشعر.. وبدأت أحلم أن أكتبه في يوم ما.. وبدأت محاولاتي في كتابته في سن مبكرة.. وبما أنني حفظت الكثير من الشعر التراثي.. لذا بدأت بكتابة القصيدة – العمودية – .. وكنت أعرض هذه المحاولات البسيطة على أبي ليصحح لي انكساراتها العروضية وأخطائي اللغوية.. حتى استطعت أن أسيطر على أداتي الكتابية.
وتابع : بعد سبع سنوات من تركي للمدرسة عدت إليها بطريق المصادفة.. واكملت الخامس والسادس الابتدائي بتفوق.. ثم دخلت – ثانوية العمارة – لاكمل دراستي المتوسطة.. وفي هذه المرحلة كنت أواصل قراءة الشعر والروايات.. وأكتب قصائدي العمودية.. وذلك بتشجيع من اساتذتي الذين كانوا على قدر كبير من الثقافة الأدبية.. وبدأت أحلم أن أجد قصيدتي منشورة ذات يوم في مجلة أو صفحة ثقافية في جريدة ما..
واستطرد : في العام 1960 اغتيل المناضل الافريقي – باتريس لومومبا – فرثيته في قصيدة.. وأرسلتها من خلال البريد إلى جريدة عراقية تسمى – جريدة المنار – .. ونسيت الموضوع .. وذات يوم شتائي بارد وملبد بالغيوم.. كنت عائدا إلى القسم الداخلي – لدار المعلمين – .. استقبلني أحد الطلاب وكان من أبناء مدينتي الكميت واسمه – عبد الوهب محمد الضمد – وهو يحمل جريدة بيده.. وقد عانقني مهنئا.. واخذ يجمع الطلاب في باحة القسم الداخلي.. ويقرأ عليهم قصيدتي.. صفق لي طلاب القسم الداخلي.. ثم حملني أحدهم على كتفيه.. وراحوا يدورون بي في القسم الداخلي وهم يغنون ويصفقون.. وكأنني بطل رياضي حقق فوزا في مباراة رياضية مهمة.
وأوضح : ذاك اليوم ظل وحتى لحظتي هذي حاضرا في ذاكرتي.. فهو اليوم الذي جعلني فيه تشجيع زملائي طلاب القسم الداخلي أشعر كم هو مهم أن يكون الإنسان شاعرا.. كما أنه كان هو اليوم الذي جعلني أواصل طريقي في رحلتي الشاقة مع الشعر والتي امتدت لأكثر من خمسين عاما.. أعتقد أنني حققت فيها شيئا يسيرا من تلك الأحلام الشاسعة التي غطت القسم الأكبر من طفولتي وصباي وحتى هذه الجهة التي تتكئ على عكازة شيخوختي.