رنيم العامري/
في زيارة لي لمرقد الولي (إمام زاده صالح) الواقع في قلب منطقة (تجريش) بطهران، لفت انتباهي أن المحال المحيطة بالمرقد تباع فيها، وبوفرة عجيبة، أكياس ملح الطعام بكل أشكالها وعبواتها وماركاتها المختلفة بشكل يبعث على العجب. ولم تسعفي مفرداتي الفارسية الشحيحة في التقصّي عن الأمر مع سائق الأجرة الذي أعادني للفندق، حتّى استعنت بمحرك البحث العملاق (غوغل) لتقصّي أمر (النمک) الذي سيبقى لغزاً قد يُحلُّ في رحلة لاحقة.
عروس النيل
النذر في اللغة، هو النحب، وهو ما ينذره الإنسان فيجعله واجباً على نفسه، وجمعه نذور، ويقال: نذرتُ نذراً، إذا أوجبت على نفسك شيئاً تبرعاً. أما النذر شرعاً فهو أن توجب على نفسك ما ليس بواجبٍ، قال تعالى “إنّي نذرتُ للرحمن صوماً”.
كان أهل الجاهلية ينذرون القرابين إلى الأوثان اعتقاداً بربوبيتها. أما الفراعنة فكانوا يرمون بحسان عذراواتهم إلى نهر النيل في موسم الفيضان، مؤمنين أن (عروس النيل) ستُهدئ ويلات النهر الغاضب. وهناك قصة مكتوبة على لفائف البردي مفادها أنّ رساماً عشق أخته وكان ينوي الاقتران بها (لم يكن زواج الأشقاء محرماً بين الفراعنة) ومن سوء حظه فقد وقع الاختيار على أخته لتكون عروساً للنيل هذه المرة، فما كان منه إلا أن يقوم بعمل تمثال شديد الشبه بأخته، وكانت الطقوس تقتضي بأن يقوم الأخ بحمل أخته ورميها في النهر، فقام هو بإلقاء التمثال بدلاً عنها منقذاً أخته –حبيبته- من الموت.
صيد البشر
في أحد مشاهد الفيلم (أبوكاليبتو) الذي يدور بين ثنايا حضارتي المايا والأزتيك، والذي أخرجه الممثل (ميل غيبسون) المعروف بميله للمشاهد الدموية، تظهر التفاصيل المروّعة لصيد البشر وتقديمهم أضاحي إلى إله الشمس الغاضب في ليلة كسوف الشمس، رعب لا ينتهي إلا برضا الإله وطلوع الشمس.
وقد اعتاد المسيحيون تقديم النذور إلى القدّيسين للحصول على النعم السماوية. وتتم النذور بمعاهدة أحد الشُفعاء بتقديم مقابل إذا ما تمّ للطالب مطلبُه، وقد يكون النذر مبلغاً مالياً يقدم الى صندوق تبرعات الكنيسة وقد يكون على هيئة وقف إلى ممتلكات الكنيسة، أو أن يكون بشكل ممارسة فردية مثل لبس ثوب الرهبان أو الحج مشياً وحتى إطالة الشعر. ومما يجدر ذكره في أصل نذر الإطالة هذا عند المسيحيين، قصة شمشون الجبار الذي نُذِر الى الرب قبل ولادته حين كانت أمه عاقراً فقال الرب: “إن من سيحل حشاها لا تعلو الموسى رأسه، لأنه نذير الرب”. شمشون لم يقص شعره طوال حياته رمزاً لحريته، فحلق الرأس في العهد القديم علامة العبيد. والراهب في المسيحية ليس إلا إنساناً مسيحياً نذر نفسه بالسير وراء المسيح “من تبعني فليكفر بنفسه، ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني”. والنذر بالرهبانية يعود في جذوره الى ثلاث نزعات في صميم التكوين البشري أولها نذر الفقر وهو يعود إلى علاقة الإنسان بالعالم المادي، والنذر الثاني نذر التبتل وهو يعود إلى علاقة الإنسان بشهواته، والنذر الثالث نذر الطاعة ويعود فيه إلى علاقة الفرد بالمجتمع. لذا فالرهبانية في جوهرها ليست إلا تحرير الإنسان من طبيعته البشرية.
نذور العراقيين والسوريين
أما عن مناطق الفرات السورية والعراقية، فقد تشابهت النذور بالطقوس والتسميات، مثل نذر خبز العباس، حيث تقوم السيدة التي تمّ لها مرادها بتفريق الخبز وبداخله شيء من الخضار الموسمية كالكراث والكرفس والرشاد مع بعض اللبن الخاثر، على الجيران والأقارب، ويسمى أيضاً بنذر المستعجل. أما في مناطق الفرات السوري فتقوم النساء بتفريق خبز الصاج وبداخله الدبس. والنذر المعروف بصينية خضر الياس أو شموع الخضر، المعروف عند المسيحين باسم مار جرجيس، يفي الناذر بنذره بتحضير صينية فيها شموع وياس على كربة نخيل توضع على سطح الماء لتطوف باتجاه جريان النهر. وقد شهدت في كربلاء في ليالي الأربعاء كيف تجتمع النسوة على ضفاف نهر الحسينية فيرسلن مع روجات النهر آمالهن وأمنياتهن، ومثلها في محلة خضر الياس في بغداد تطفو صواني خضر الياس على نهر دجلة، والتي كتب عنها عريان السيد خلف:
“إكعد بالشريعة اكبال خضر الياس، واشعلهن سنينك بلجن الغيّاب، بلجن بالجذب يندك عليك الباب”.
أو ما كتبه (هادي العكايشي) فغنّاه (ياس خضر) في أغنية (شموع الخضر):
“جيتك يشط متعنّي وانذرلك نذر.. ليلة أرِبعا واعلك شموع الخضر”.
وهذا ما أشارت إليه (فرايا ستارك) موظفة الاستخبارات البريطانية حين زارت النجف عام 1937 معلّقة في كتابها (صور بغدادية) أنها عادة قديمة ترجع بقدمها إلى تاريخ هذه البلاد العريق في القدم، وتقول أنّها شاهدت من على ضفاف الفرات في الكوفة شعلات من النار طافية في النهر، وقد كانت تنساب منحدرة مع تياره حتى تختفي.
حلّال المشاكل
أمّا حلّال المشاكل فهو ذاك الخليط من المكسّرات مع الكشمش والملبس، يقوم العطار أثناء تحضيره بقراءة بعض الآيات والرُقى. ويذكر أن حلّال المشاكل لا يجوز على الرجال أكله ففي هذا مجلبة للشؤم واحتباس الرزق، وقيل أنه يتسبب بالسجن.
ومن طرائف النذور والحيل الشرعية للخلاص منها، مايحكى بين أوساط النسوة عن الأم التي ضاقت بخلفة البنات أنها نذرت إن كان مولودها ذكراً فسترقص في الشارع عارية من الملابس، ولما شاء القدر أن يكون لها مرادها وحان موعد الوفاء بنذرها، أخبرت جمع من نسوة الحي بمعضلتها، فاقترحت كبيرتهن التي علمتهنّ فنون الحيلة بأن تأتي ومعها جمع من النسوة الثقات تحت جنح الليل وفي أحد (درابين) المدينة، فتقوم النساء بالتحلق حولها بعباءاتهن لتنزع هي ملابسها وترقص وتفي بنذرها الثقيل. ومن منا لاينسى مشهد مسلسل باب الحارة حينما أقسم في ساعة غضب أحد رجال الحارة على زوجته بالطلاق فيما لو مشت فوق عتبة الدار. لذا عندما انطفأت نار الغضبة توجه الى شيخ الحارة لكي يخلصه مما أوقع نفسه فيه، فما كان من الشيخ إلا أن أشار عليه بأن يحمل زوجته على ظهره ويجتاز بها عتبة الدار، وبذلك ينتهي من أمر ذلك اليمين.