خضير الزيدي /
لا يذكر تاريخ العراق القديم إلا والفنون المعمارية حاضرة في أدق تفاصيله. وما أن تشير الى تلك الحقب ومراحلها إلا وأنت مأخوذ بفتنة الزخارف الإسلامية وأشكال القباب وجمال التصاميم من البناء والتكوين.
فلقد سجلت الفنون العريقة في بلاد الرافدين منذ مئات السنين إبداعاً إنسانياً قل مثيله بين الدول الأخرى تجلى واضحاً في عناصر وخصائص بناء النقوش والزخارف والفسيفساء وفنون الآزج التي يشير إليها الفيروزابادي في قاموس المحيط وبطرس البستاني في محيط المحيط والعلامة مصطفى جواد بما يعني انه مصطلح معماري يستعمل لكل سقف شيد بشكل مقوس. ومن المؤكد أن ثمة عوامل كثيرة ساعدت في نشأة هذا الفن العريق، ولعل التحكم في مادة الطين السهلة وطبيعة البيئة الزراعية هي من ساعدت على إحيائه وانتشاره في مراحل امتدت حسب سجلات التاريخ ولجان التنقيب إلى فترة أواخر أوروك وبداية عصر جمدة نصر وتكشف ذلك في سقوف معقودة في مقابر الحكم السومري. ولا يخلو العصر الآشوري من هذه القباب وهو ما تم اكتشافه في قصور ومعابد الدولة الاشورية إذ وجدت القباب المخروطية مشيدة وأكثر رسوخا في فنها وتصميمها الهندسي وغالبا ما كانت تحتوي هذا الطراز البنائي بوابة ادد وقصر سرجون في خرساباد. وهذا الكشف والتنقيب يوضحان للدارسين أن فن الآزج متوفر قبل الفن الإسلامي وان بدت المرحلة الإسلامية أكثر انتشارا لهذا الفن الهندسي. ولعل أشهر القباب المخروطية شهرة في بغداد قبة السيدة زمرد خاتون إلى الجنوب الغربي من جامع الشيخ معروف الكرخي إذ يذهب الكثير من الباحثين ومنهم العلامة مصطفى جواد إلى أن نسب السيدة زمرد خاتون هي أم الناصر لدين الله المتوفاة سنة 599 هجرية وهذا الرأي هو الأكثر تقاربا مع رؤية هرتسفلد من أن تاريخ بناء الضريح يعود في عناصره المعمارية والبنائية لزمن الناصر لدين الله. شيدت هذه القبة المخروطية وفقا لقاعدة ثمانية الأضلاع بلغت سعة بنائها 60/7 متر وأطوال أضلاعه تتقارب بين 72/2 متر بينما يبلغ سمك الجدار فيها 5/2 متر تكونت من مادتي الآجر والجص زينتها زخارف آجرية مكونة من نجوم وأشكال هندسية استطاع الوالي ناظم باشا سنة 1910 ان يعمر فيها ما يليق بالضريح وبتلك القبة الماثلة لليوم في تصارع مع الريح والامطار. وما أن تخرج من هذا المكان متخذا من الشرق وجهة لك حتى تدهش بقبة مخروطية أخرى وهي تعلو ضريح الشيخ عمر السهروردي يرجع تاريخ بنائها لسنة 917 هجرية تزينها عقد مدببة الشكل بالإضافة للكثير من المقرنصات تم تصميمها بشكل مربع أبعادها الهندسية 4،70 في 4،90 بينما يبلغ سمك جدار الغرفة 1،20 متر وقد تختلف صورة القبة في المقرنصات والزخارف النباتية لمن يتأملها من الخارج والداخل ففي الخارج تكون صفوف المقرنصات أحد عشر صفاً وتقوم زخارفها على تكوينات من الأشكال النباتية والرسوم الطبيعية وما أن تلتفت صوب الواجهة الشمالية حتى تجد الآية القرآنية أمام ناظريك (فانظر إلى آثار رحمة ربك كيف يحيي الأرض بعد موتها).
أما في جنوب العراق فما أن تدخل مدينة البصرة، مدينة الحسن البصري، حتى يأخذك الحنين لزيارة ذلك العارف المتصوف المتوفى سنة 110 للهجرة وهناك ستقف عند تلك القبة الجميلة في معمارها وتتساءل عن طريقة تكوينها وتشييدها، فالمقرنصات التي تراها ماثلة بأشكال تدعوك لمعرفة تاريخ نشأة هذه القبة التي تقوم على بناء مربع يبلغ ارتفاعه خمسة أمتار تعلوه قاعدة من ثمانية وجوه وتم تشييد القبة ضمن المقرنصات التي تحول المربع إلى مثمن من اجل التصميم الأخير لبناء القبة ومن يذهب لمقام وضريح المتصوف الحسن البصري سيجد أصابع الزمن قد تركت آثارها على تلك القبة بالإضافة لعوامل البيئة والطبيعة وكثرة الصيانة المعمارية التي عرفتها هذه القبة المخروطية التي تضم رفات الحسن البصري الذي يذكره ابن خلكان في وفيات الأعيان بأنه ولد في المدينة سنة إحدى وعشرين للهجرة وهاجر لمدينة البصرة سنة 36 وتوفي فيها في حدود سنة 110.وما أن تنتهي من رحلة المتصوف الحسن البصري حتى تولي وجهك نحو نهر الفرات فتجد قرب احد روافده في الجنوب قبة عالية ومكانا روحانيا يسحرك بأجوائه وطبيعته الغائرة في عمق التاريخ وتتساءل لمن المكان ومن شيده وكيف حافظ الإنسان المعاصر عليه من تركات الريح والأمطار وتقلبات المناخ وويلات الحروب، وأنت تحدث نفسك عن جمال البناء ستكتشف لافتة كبيرة تؤكد بأنك واقف عند مرقد النبي حزقيال المسمى بذي الكفل. حينها ستعرف انك شاخص كإرث هذا المكان وما أن تتقدم خطوات داخل ذلك المكان الطاهر حتى تجد قاعة لأشخاص دفنوا يقال إنهم أصحاب ذي الكفل وستجد عقدا مزخرفا بأشكال نباتية ملونة وإذا رفعت عينيك إلى الأعلى فستجد تلك القبة المخروطية مكونة من عشر طبقات كل طبقة مكونة من بائكة من العقود المسطحة. وقد ذكر الباحثون ان مرجعية هذه القبة تعود للقرن السادس الهجري وهي من الطراز المغولي في تصاميم العمارة. وإذا انتهيت من رحلة جنوب العراق واتخذت من الشمال جهة لك فلابد أن رحلتك ستتوقف عند أهم المدن العراقية وهي الموصل التي تعد الأكثر شهرة في ترتيب القباب المخروطية فهناك جامع النبي يونس المذكور في كتاب معجم البلدان الموصوف من قبل ياقوت الحموي بأنه (مشهد مبني محكم بناؤه بناه احد المماليك من سلاطين آل سلجوق). وللأسف لم يبق من آثاره شيء بعد ان دمره الإرهابيون وهناك قبة لضريح الشيح فتح بن محمد بن وشاح الموصلي. وتقوم النقوش في القبة على أربعة مقرنصات ويتحول البناء إلى مثمن تعلوها خطوط ملونة كلها تمت جراء الاهتمام بالفن الإسلامي الذي يعد اليوم نموذجا لجمال التكوين الفني البارع.