فيلم “الجميع بخير”..عندما يخفي الأبناء فشلهم عن الآباء

فدوى العبود/

سيحظى مشاهد الفيلم الأرجنتيني “الجميع بخير” للمخرج جوزيبي تورناتوري -الذي شارك بكتابة سيناريو الفيلم بالاشتراك مع تونينو غويرا وماسيمو دي ريتا- بالكثير من السفر في القطارات والتوقف في المحطات والحيرة على مفارق الدروب؛ والعديد من الأسئلة التي يطرحها الفيلم الذي لعب بطولته في دور الأب ماثيو سكورو النجم الإيطالي مارسيلو ماستروياني.
لعل السؤال الأساسي للفيلم يتعلق بقدرتنا على حماية أبنائنا من عَسف العالم وجور الصدف ولامبالاة القدر.
فهو يطرح مجموعة من الهواجس تسهم الصورة البصرية -التي تشكل نصّاً موازيـــــاً-في جزءٍ كبيرٍ منها.
فالصورة تكشف مدى القبح الذي تخلِّفه فلسفة العالم الرأسمالي ومظاهرها المادية البليدة المتخفية تحت المدنية القاتمة. والحكاية تتعلق بسيرة الروح الفرديـــــة ومكونات الذكاء الخاصة (من حساسية وشاعرية وسخرية) من المادية؛ لكن الصورة ذاتها تعود لتطرح على المشاهد تساؤلاً حول قدرة تورناتوري على الفكاك مما ينتقده! وجميعها تصب في الهاجس الكلي للفيلم والمتعلق بفلسفة الرحلة باعتبارها إعادة اكتشاف وتصحيحاً مستمراً لحياتنا.
أسئلة تتوالى
يدور الفيلم حول ماثيو وأبنائه الخمسة -وهذا هو الخط الرئيس للفيلم-الذي ستتفرع عنه خيوط جانبية ومهمة تتعلق بالحياة والتربية والقدر والقناعات. ينطلق العجوز الذي كان يعيش وحده بعد وفاة زوجته أنجيلا -التي لم يتوقف عن التحدث إلى روحها-من جزيرة صقلية لزيارة أبنائه الذين انقطعوا عن زيارته منذ فترة. والموزعين بين روما ونابولي.
وبينما يتابع المتلقي خط رحلة العجوز المبتهج، الذي لا تنقصه الحساسية والذكاء والسخرية، فإن الأسئلة تتوالى على المشاهد؛ لحظة وصول ماثيو المدينة. وهذا يبين بوضوح موقف تورناتوري من الرأسمالية فالمكان بدا أقرب للوحة سريالية على شكل لقطات سريعة متلاحقة صاخبة بألوان قاتمة ومعتمة توحي بالفقر الروحي والإنساني الذي يعكسه المكان (مشهد رجل يريد الانتحار بمسدس مزيف وهو يرمي اللاقطات الهوائيــــــة فوق رؤوس الناس الذين يضحكون عليه، العصافير التي يكنسها عمال النظافة والتي تتساقط في أسراب ميتة، وحين يسأل العجوز أحد الأشخاص فيخبره بلامبالاة “إنهم يصابون بالجنون فوق المدينة حيث تضيّع الطيور الاتجاهات فتقرر الانتحار الجماعي”، حادثة اعتداء على العجوز في محطة صغيرة ولا مبالاة المارّة، تحطيم لص للكاميرا التي أحضرها ماثيو خصيصاً ليوثق لروح أنجيلا صور أبنائها). في المقابل يشكل مشهد اتصاله بابنه ألفارو مقاومة لهذه العجلة واحتفاءً بالبطء؛ فالجموع المسرعة تتوقف وتتجمد الصورة لحظة اتصال ماثيو بابنه الفارو وسماع المجيب الآلي، وبمجرد أن يغلق السماعة يعود كل شيء الى طبيعته.
هؤلاء أبنائي
بالعودة الى الفيلم، فإن الأب يرغب بالحديث عن أبنائــــــِه وفخره بهم؛ لكن أحداً لا يريد الاستماع إليه -ما يحيل إلى قصة “أيونا” لأنطوان تشيخوف. إنه لا يتوقف عن الحديث عن منجزاتهم ونجاحهم في الفن والسياسية والموسيقى والمهن العليا؛ وهو يعرض على المستمع صورة جماعية التقطت للعائلة في عرض مسرحي؛ التي توحي للآخرين أنهم فرقة مسرحية، لكنه يصحح لهم بابتهاج: هؤلاء أبنائي الذين نجحوا في الحياة وأنا في طريقي لزيارتهم. لكنه حين يصل الى منزل أصغرهم “ألفارو” لا يفتح أحد الباب فيضطر لقضاء ليلته في ساحة نابولي، وهو يتحدث إلى طيفه حين كان طفلاً، ونتيجة البرد الشديد يقصد فندقاً ويطلب الغرفة رقم 12 التي قصدها قبل ستين سنة مع رفيقة حياته أنجيلا (أمام دهشة موظف الاستقبال ونظرته البليدة العاجزة عن فهم أن يحنّ أحدهم الى مكان مرّ به منذ زمن بعيد).
الزيارة الثانية كانت لـــــــــــــ ابنه جولميلو الذي كان يحلم أن يكون عازف كمنجة، ثم ابنته توسكانا عارضة الأزياء والممثلة المشهورة، والسياسي الذي يخبره أنه ترشح لوظيفة مرموقة في البرلمان. لكن في كل محطة كان ماثيو يتلقى إشارات غريبة ويشعر بحدس الأب أن هناك شيئاً مخفياً عنه. إلى أن تأتي لحظة الحقيقة، حين يزور نورما في ميلانو، وهناك يعاوده حلم الشاطئ الذي يظهر فيه برفقة صغاره الخمسة الذين يبتلعهم منطاد أسود. وفي اللحظة التي يستيقظ فيها مذعوراً يسمع مصادفةً حديث نورما وزوجها وهما يتعاركان ليكتشف أنها عالقة في زواج غير سعيد وأن زوجها أتى فقط للمجاملة ريثما يرحل، ما يدفعه الى المغادرة والسير حتى يدعوه مشرد للنوم في علبة كرتونية فوق أحد الأرصفة. وهناك يرسم تورناتوري مشهداً من أجمل اللوحات السريــــــاليـــّة، بحيث يصفِّر العجوز فيأتي أطفاله تباعــــاً ليخبروه بالحقيقة.
-كلكم كذبتم علي..
-لم نرد أن نحزنك لأنك كبير السن، ومريض وسترحل قريباً.. لقد أخبروه أن ألفارو فاز بجائزة لمنحة، لكن الحقيقة هي أنه قد انتحر، وقد أخفى الجميع ذلك عنه، وأما توسكانا التي توهمه أنها ممثلة ناجحة فهي تعمل في تصوير (اللانجري) في مشهد مذلّ أقرب لنخاسة الجسد حيث يصرخ المصور في النساء، كما أنها عالقة في تربية طفل تدعي أنه ابن صديقتها وحين يسألها عن الرضيع تجيب بأنها لا تعرف من هو الأب. أما نورما فتخبره أنها عالقة في زواج سيئ، ولم يكن جولميلو عازف كمنجة ولا توجد أية جولات في أوروبا، إنه مجرد ضارب طبل في فرقة متواضعة. لقد أرادوا أن يخفوا عنه صعوبات الحياة، والتنازلات التي قدموها دون جدوى. وأن مشهد الخطأ في القطار حين يعطي قاطع التذاكر صورة أبنائه بدلاً من التذكرة، ليثقبها الأخير دون قصد فتسقط منها وجوههم. وحين يلاحظها أحدهم ويسأله عما إذا كانت هذه الصورة لفرقة مسرحية.
يجيب: نعم هو عرض مسرحي.
ولعل السؤال الذي يطرحه القارئ على نفسه في المشهد الأخير الذي يصور جبلاً من الملح يجسد لحظة انبثاقه من رحم والدته التي تؤنبه قائلة: “ماثيو كم مرة أخبرتك ضع المال في اليد، ألا تتذكر! عندما يولد لك طفل وتقلِّم أظافره فلتضع في يده مالاً حتى يكبر ويصبح قويــــاً”-هو:
“لماذا تبنى تورناتوري القيم التي تنتقدها الصورة في مجمل أعماله، وكأنـــــه يقول: إذا أردت مواجهة هذا العالم كل ما عليك فعله أن تضع المال في يد طفلك؟”
يصل ماثيو إلى خلاصة، أن كل تلك التضحيات: تضحيات أمهم أنجيلا وشقاءه (الرهونات والتوصيات والقروض)، بدون فائدة. وحين يصل إلى قبر أنجيلا يقول: “سأخبرك.. كانت رحلةً مهمة، لكني لن أتمكن من أن أريكِ الصور، لقد مشيت كثيراً، واكتشفت العديد من الأشياء المهمة، أطفالنا جميعاً بخير، إنهم يسجلون ذكراهم على الأرض.”
الهزيمة
ينتهي الفيلم بمشهد يصور يداً تقلم أظافر طفل، بينما تضع في يده الأخرى رزمة ًكبيرةً من النقود؛ ما جعل الرسالة الأخيرة للفيلم تبدو كهزيمة؛ بل ربما كانت أخطر هذه الرسائل هي الرسالة التي يحملها مشهد النقود بيد الطفل الصغير. التي بدت اعترافاً مراً بأن كل المواهب والأحلام لا قيمة لها أمام سطوة المال، وأن الحظ ليس صنيعة الإرادة والمثابرة، بل إنه ابن شرعي لرأس المال ورائحة النقود، ولا يتبقى للفرد سوى السخريـــــــة من العالم رغم انخراطه فيه.