في ذكراه السنوية الأولى كان صوتاً نقياً مثل روحه.. جمعة الحلفي في رحيلهِ انكسرَ خاطرُ القصيدةِ وغاب عطرُها الأثير

آية منصور /

وكأنه الأمس، هذا الرحيل المفاجئ والسريع والصادم، مضى سريعاً نحو السماء، وترك محبيه في صدمة هائلة ما زال صداها حتى اليوم.
جمعة الحلفي، الشاعر والمعلّم ورئيس تحرير “مجلة الشبكة العراقية” السابق، يمر بطيفه الينا كل يوم، فيما نتمنى له الراحة الأبدية أينما حطّت روحه.

انكسار خاطر القصيدة
“جمعة قلم نبيل، لم يتسخ بنفايات الكذب والتزييف”.. هكذا بدأ مدير عام شبكة الإعلام العراقي مجاهد ابو الهيل حديثه عن الحلفي ورحيله، مؤكداً “أن صوته ظل محافظاً على صفاء بحثه عن الحقيقة، لذا يعد خسارة كبيرة لن تعوضها الدموع.”
-هذا الرجل ظلت عباءته نقية وناصعة مثل روحه، وأنا إن تحدثت فإنما أتحدث عن صديق وأستاذ تعلمنا منه جميعا، تعلمنا منه كصحفي، كشاعر مهم، بل من أهم الأسماء الشعرية بعد مظفر النواب وجيله.
ويرى ابو الهيل أن الحلفي كتب بألم وحزن شديدين، وهو لا يكتب لأحد، بل للجميع.
-كان متقداً بالقصيدة والوطن، الحديث عنه لا يخلو من مرارة وحزن، هذا الرجل فلت من أيدينا ولن يعوضه احد.
أخلف الوعد!
أما رئيسة تحرير “مجلة الشبكة”، والصديقة الصدوق لجمعة الحلفي، فتؤكد وبحسرة “أن جمعة الحلفي لم يملك مكتباً فخماً في غرفة موصدة الأبواب، انما كان أخاً قريباً من الجميع في علاقاته الإنسانية، لذا أحبه واحترمه كافة العاملين.”
-كان جمعة معتزاً بنفسه وكرامته، لم يحاول المتاجرة بالسنوات التي أمضاها مناضلاً بقلمه وشعره خارج العراق، لم يحاول أن ينفخ جيوبه بأموال تستقطع من الموازنة العامة ومن أفواه الفقراء تحت مسميات مبتكرة.
كما ترى أن الحلفي لم يكن من المتدافعين على المنصب ولم يفكر يوماً أن يقف أمام باب مسؤول ليطالب بحقوقه بل استمر دفاعه عن غيره.
-كان مستعداً للدفاع عن الصديق مهما كانت النتائج، يشبه ألوان قمصانه الزاهية، صديقاً نبيلاً ومستمعاً جيداً، كثير الحكايات الحلوة وكثير الوجع.
وتختم قولها بأنه لم يخلف وعداً يوماً، سوى وعده الأخير، اذ وعد جميع محبيه بالنصر على الخبيث والعودة لهم.
-كانت رسالته القصيرة التي أرسلها في منتصف كانون الأول بعد انتصاره على الورم في الرأس مشجعة جدا، جاء ليمضي اياما في بغداد ليكون بين الجميع، سنفتقدك كثيراً. صعب أن نستوعب رحيلك المفاجئ كما لم تستوعبه أنت.
رحلتَ لكن عطرك باق
فيما يقول الكاتب والصحفي إياد عطية الخالدي الذي عمل مع الراحل في مجلة “الشبكة” : لا أريد أن أرثيك وأبكي غيابك، فالأجساد تغيب لكن الأرواح تظل حاضرة، وأنت كما عهدناك روحاً للمعاني والقيم، أيّ جرح وألم ومسيرة حزن كربلائي لن تختفي آثاره، لأن أصلك رسالة وانتماءك ضمير نقي، فيا لها من خسارة كبرى وأقسى الخسارات أن يفقد الوطن أبناءه البررة.
وأضاف: أعرف أن الطغاة الذين واجهتهم بكل اقتدار سلبوا أحلامك ودفعوك إلى منافي الغربة، وأعلم أنك أيها العاشق المفجوع بوطن الكبرياء، حاولت ترميم أسوار هذا الوطن ووضعت هناك طابوقة مع البناة وأشهرت هنا سيفاً مع المناضلين وكم من معركة خضتها لأنك كنت تحلم بوطن مرسوم في قلبك لا على خرائط واقع أليم.
وتابع: أعرف أن أمنياتك الكبيرة لم تتحقق لكن نبتتها باقية، فيوماً ما سيهطل المطر الذي شارك في وداعك وأصر أن يرافق موكب تشييعك حتى مثواك الأخير كي يسقيها فتزهر وطناً حراً يليق بشعب مضحٍّ معطاء، خذله أبناء جلدته وجيرانه وخذله القدر الذي اختار من يحبه ومن يريده كبيراً وشامخاً، أجمل الأوطان وأقواها كما هو تاريخه الموغل في الأعماق.
وداعاً ايها النظيف..
الكاتب عامر بدر حسون، يجد أن الحلفي مات فقيراً، ولم يترك غير سمعته ونظافة كلماته:
-لقد وقفت على جثمانه عندما جاء به الأصدقاء والزملاء والمعارف ولفت انتباهي أن غالبية من ودّعوه كانوا يرددون: وداعاً أيها النظيف. هل ثمة أعظم من هذه الصفة والتحية في ايامنا هذه لمثقف ومسؤول كانت أموال الدولة تحت تصرفه فصانها كما صان كلمته وأمانته.
ويؤكد أن الحلفي لم يكن لحزب أحد، بل كان مثقفاً حريصاً على استقلاله ولم يتاجر بموقف سياسي يوماً، كما ولم يغضب أحداً ولم يحقد ، بل كان يجد العذر للجميع ويسامح كل من آذاه.
الرجل الذي استقبله الموت بحفاوة!
“إنه الشيء الذي لا يشبه الا نفسه”.. هكذا، بغزل وحب، يصفه الكاتب حسن العاني وهو يسترجع ذاكرته عن الحلفي –بحزن وندم- لكونه لم يدون تأريخ لقائه به لأنه، وحسبما يقول، ليس متنبئاً ولا قارئ كف ليعرف حكاية رحيله.
-سمعت للحلفي ما هز أعماقي، يومها غادرت مكاني مستأذناً نحو منضدته، وقبل أن أمد يدي، كان قد وقف بقامته المديدة وصافحني بحرارة، لم يكن بيننا سابق لقاء او معرفة، قلت له ما وددت أن أقوله من دون أن يفوتني تقديم نفسي ثم عدت ادراجي.
يؤكد العاني أن الاكتشاف الأعظم كان بمعرفته للحلفي، حينما اكتشف لأول مرة، انه يحاور مثقفاً موسوعياً، يصغي الى الآخر وكأنه تلميذ في حضرة مدير المدرسة.
-ثم اكتشفت لاحقاً أن هذا الكائن لا يباهي بغزارة معلوماته ولا يحسن الترويج لنفسه، ولعل التواضع الكبير –كما يقضي الواقع وتقتضي الوقائع- انتباه الآخرين الى قامته الثقافية والإعلامية الرفيعة، والى نضاله المشرّف الذي بناه بصمت ومن دون جلجلة او جعجعة.
ويتساءل العاني بعتب محب عن السر الذي أخفاه وهو يسابق العمر ويسبقه الى موطنه الأبدي، مضيفاً أن قرار الحلفي كان أسرع مما يتوقع الجميع:
– فتح ذراعيه مبتسماً لاستقبال الموت القادم من غير استئذان ولا موعد!
علامة في الشعر العراقي
الناقد السوري نبيل سليمان يرى أن جمعة الحلفي كان في طليعة من أخذ شعرهم الشعبي ينازع تراث النواب على الصدارة وهو التراث الذي لم تنل السنون من أغلبه:
-يمكن قراءة جمعة الحلفي لتاريخية الشعر الشعبي العراقي، ولعل التقديم لذلك بما ساق سواه في تجديد الشعر العربي بعامة، لقد أضاف جمعة الغايب علامة فارقة في العقد الذي ينظم الشعر الشعبي.
ويكلي انت شبيك محتار
الكبر بسمي مسجل وصار
واول شهر ما ادفع ايجار
ما تفرح انته يصير لي دار
واللوز والزيتون ازرعه
نقاء الضمير بمرتبة القلق
الكاتب علي عبد الأمير عجام، الذي عرف الشاعر جمعة الحلفي في اواسط سبيعنات القرن الماضي، لكنه عرفه اكثر خلال عملهما المشترك في تحرير مجلة “المسلة الثقافية” المعارضة، يرى أن رحلة الحلفي، التي قضى فيها ربع قرن يقارع الطاغية صدام، كانت مليئة بالأحلام بوطن أفضل لم يتحقق بعد 2003:
-بعد العودة الى بغداد في ربيعها القصير 2003 باح بالكثير من جوهره الإنساني والثقافي عن بغداد التي عرفها من جديد، اذ وبعد نحو ربع قرن من فراقها قال: لم أجد بغداد للأسف.. أقصد بغداد التي احتفظت بصورتها في ذهني.
ويرى عجام أن الحلفي كان متواضعاً للدرجة التي لا يمكن تخيلها، لأنه يجد أن كتابته للشعر او القصة ما هي الا ترويح للنفس عدا الصحافة لأنها مهنته:
-لم يخطط، حسب قوله، يوماً ليكون شاعراً او قاصاً، إنه إحساسه الداخلي وعملية بحث عن الهوية.
امتنان حتى الأبد
يقول الكاتب والصحفي ابراهيم الساعدي: كنت قد شعرت باليأس من فكرة إيجاد مكان يؤويني للعمل فيه، لا أعلم ما الذي قادني للكتابه الى الأستاذ جمعة الحلفي والشكوى له بحرقة عن محاولاتي التي لم تنجح مطلقاً، كان جوابه سريعاً وملهماً لإرسال المواد، كنت قد كتبتها بطلب منه، بعد قراءته لبعضها أخبرني أن أسرع بكتابة موضوع وارساله له، لقد كان الموضوع عن نساء شعبيات يمتلكن وبفطرتهن مهناً منزلية بسيطة، أحبه كثيراً، فكان هذا الموضوع الأول لي في هذه المجلة: “افتقد العم جمعة الحلفي دائماً، وأرجو ان ترقد روحه بسلام.”