أحمد هاتف /
مذ كان الليل ليلاً، والعمر مستقيماً مثل كذبة، كانت “نادية لطفي” .. المرأة التي سنّت رماح أحلامنا.. بصوتها اليحفر في الذكرة حتى صهيل هذي اللحظة، زرعت الفتنة في ثيابنا البيض… حملتنا إلى السهر لنرى “الخطايا”.. ونبكي كما الفاقدات.. وننشر نجمة عينيها في سماواتنا الطفلة… كانت نادية لطفي أمومتنا في الحب، وإمامنا في الغرام، وأيقونة الطفولات الذاهله في ترف جمالها… كيف لهذي النجمة أن تخبو… كيف لأعمارنا أن تستقيم دونما نادية لطفي فيها؟…
قرأت خبر رحيل الأستاذة.. الفرعونة الأجمل على مر العصور.. وامرأة الشاشة الاستثنائية جداً… نعم.. أبكتني هذه الخطيرة في طّلتها، جرفتني من عمري الطفل إلى عمري العاق، وأخذتني بعيداً إلى أيامها، إلى “أبي فوق الشجرة”.. و “عدو المرأة” و”الخطايا”… و”قصر الشوق”… وكانت بوابتي إلى قراءة نجيب محفوظ، ومرآتي في التعرف إلى إحسان عبد القدوس.. وشغفي بشادي عبد السلام.. لم أتقبل يوماً أن أنظر إلى شيخوخة نادية… لم أتقبل سوى صوتها المتخم بالخوف والتبغ والذكريات… ربما كانت هناك الكثير من نادية لطفي… نعم… كانت هند رستم، ساحرة الضحكة.. وكانت شادية، وربما زبيدة ثروت، وربما صباح الجزائري، وربما… وربما.. لكن نادية لطفي ظلت القمر المتخم بالضوء في ليالينا الضيقة، كنا نتداول صورتها، كالأدعية، ونضعها قرب أسرَّتنا لتحرس منامتنا القلقة،… لا أتذكر أني رأيت نادية لطفي في السينما، لأن عصرها سبق عصري بكثير، لكني كنت أتشبع بقديمها، وأتابع أخبارها، مع محمد بديع سربية في الموعد، والشبكة، والصياد، مجلات العصر الذهبي التي كانت “الإنترنت البطيء لأعمارنا”… حتى الآن أرى نادية لطفي بالأسود والأبيض.. لا أتقبل صورتها الملونة، لأني اعتدت رؤيتها هناك.. في السينما القديمة، تبزغ بألف لون غير معدل بعد، وغير مصنوع، كانت تظهر بالأسود والأبيض لترينا كيف تتفوق المخيلة على التلوين، كانت براءاتنا تظهرها بألف لون، لا أتذكر أن امرأة شدّتني قدر هذه السيدة.. تلك الأربعينية في “الأقمر”.. وربما كان الفيلم الذي شدّني كثيراً فيما بعد، حين بدأت افهم السينما، وأتابعها، وأقرأ مناهجها، تحضيراً لدخولي معهد الفنون الجميلة… في “الأقمر” بدت نادية لطفي امرأة أخرى، عمراً نادراً في المخيلة، ونضجاً مشتهى، وأيقونة لم تطرأ على بال الحلم… فعشقناها… كما عشقناها في “أبي فوق الشجرة”، كما عشقنا كأسها وسيجارتها، وسراويلها التي ماتزال عنواناً باذخاً للأناقة… نادية لطفي لم تك أبداً مجرد ممثلة.. كانت عمراً لفّنا بالندى والشعر والجمال، والأحلام، والنضج… كانت كتاباً في الوعي، أيقنّا معه أن العمر امرأة وكأساً وكتاباً وظِلَّ أغنية يبعثرها عبد الحليم في مساءات ماطرة…. لقد كبرنا معها، بضحكتها التي تشاطر ألف سماء ترتدي بدلة المطر، والتي حين تبزغ تهتز لها السطور في درس الفيزياء الذي يتوجب الهرب منه… من منا لم يكتب اسمها في دفاتره المدرسية، من منا لم يحلم بها حبيبة.. من منا استطاع الهرب من هذا الظل الفضي الداهم…؟
رحلت الأستاذة.. في زمن لا أساتذة فيه.. وبقيت نادية لطفي.. المرأة التي جاوزت الأنوثة بكثير، حتى دار رأس المعنى حين مرّت عليه… رحلت نادية لطفي.. التي لم ندرك اسمها إلا نادية لطفي.. وأسقطنا عن عمد اسمها الحقيقي.. أسقطنا لهجتها التي تمصّرت كثيراً بنضجها، بعد أن كانت برنسساً فاتنة، تتحدث المصرية بطريقة أهالي السلّم العالي.. رحلت نادية لطفي ورحلت معها طفولاتنا التي لم يعد يأويها أحد… وداعاً برنسس… وداعا نادية لطفي.. وداعاً يا “أستاذة”..