إيفان حكمت /
بعيداً عن السياسة وهمومها وبابتسامة بصرية سيّابية، يعرض علي مؤيد قاسم، سائق سيارة أجرة في مدينة البصرة، كتاباً مجانياً على راكب سيارته ليقرأ فيه وبشرط واحد فقط: ألا يستخدم هاتفه الذكي أثناء وجوده في السيارة لعشر دقائق متصلة، المبادرة التي أصبحت تعرف بـ “تكسي القراءة”.
قاسم قرر أن يحمل في سيارته كتباً يقرأها عند توقف سير المركبات بسبب الزحام أو أثناء انتظاره أحد زبائنه. وتحولت فكرته بعدئذ إلى حملة لمشاركة قراءة الكتب. حيث مر قاسم بظروف صعبة، ما اضطُّره وهو طالب في المدرسة الثانوية للعمل سائقاً لسيارة أُجرة من أجل توفير إحتياجات أُسرته، فيما يحاول من خلال مبادرته أن يحافظ على هوايته المتمثلة بحُب القراءة.
علي قاسم، ابن العشرين ربيعاً، يقول إن عمله في سيارة الأجرة وضع عليه بعض القيود، التي باتت تبعده حيناً بعد حين عن القراءة والكتب، ما “دفعني الى حمل الكتب معي في السيارة واستغلال أوقات الفراغ للقراءة، ثم تحول الأمر أن أعرض الكتب على زبائني، حتى تحولت إلى مبادرة”.
قاسم أطلق مبادرته منذ عام بكتبه الخاصة، لكنه سرعان ما لفت انتباه أصحاب دور النشر الذين عرضوا عليه كتباً مجاناً كطريقة للترويج لإصداراتهم. وتحمل سيارته اليوم نحو عشرين كتاباً في موضوعات مختلفة بينها أعمال أدبية وفلسفة وعلوم وسياسة وشعر وغيرها.
ويؤكد قاسم أن الكثير من الركاب هم من كانوا يبادرون بالسؤال عن ماهية الكتب الموجودة في السيارة قبل أن يتحول الأمر الى مبادرة، وهو دليل وعي وحب للمطالعة والقراءة، ثم شيئاً فشيئاً تحول الأمر الى مبادرة، التي من المهم جداً ان تبعد الناس ولو لبرهة عن مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من الأمور الطارئة على حياتنا.
“الشبكة” تابعت ردود أفعال البصريين حول هذه الظاهرة الحضارية، إذ قال (حسن بدير) وهو موظف في شركة النفط، انه فوجئ بسائق التكسي حين عرض عليه بعض الكتب لقراءتها في أثناء نقله الى مكان عمله، ويضيف في حديث لـ”الشبكة”: انها ظاهرة حضارية حقاً، خصوصاً وأن عناوين الكتب متنوعة، والأهم من ذلك هو تقديم السائق للكتاب هدية في حال استمرت القراءة لعشر دقائق دون الالتفات الى الهاتف النقال الموجود في جيبي. ويضيف حسن أن هذه المصادفة الجميلة أعادتني الى أجواء القراءة مجدداً، حيث توقفت عنها طيلة أعوام بسبب قلة المكتبات بعد أن كانت منتشرة في جميع شوارع البصرة، إضافة الى الوقت الذي تستهلكه المتابعة على الهاتف النقال.
(يقظان عسكر)، المهندس في مجال النقل البحري يقول لـ”الشبكة”: حين أزور عاصمة أوروبية وأرى الناس هناك يقرأون الصحف أو الكتب وهم ينتظرون وسائط النقل في المحطات، وهم جالسون في وسائط النقل العام كالحافلات وقطارات المترو، كنت أتمنى ان تنتقل هذه الظاهرة الى مجتمعنا، لترسيخ الوعي والثقافة في أذهان العراقيين، وفوجئت أن المبادرة لم تأتِ من وزارة الثقافة أو من إحدى مؤسسات الدولة، بل من سائق تكسي شاب وهو يعرض عليّ مجموعة من عناوين الكتب لكي أمضي الوقت الذي يستغرقه الوصول بالسيارة الى المكان الذي أقصده بمتعة القراءة وفائدتها، والأجمل من ذلك، يضيف يقظان، أنه عرض عليّ أن أحصل على الكتاب مجاناً في حال استمراري في القراءة لمدة عشر دقائق دون أن أفتح موبايلي الشخصي، ما دفعني للمقارنة بين ثمن الكتاب وأجرة توصيلي التي سيحصل عليها السائق ، والمفارقة كانت أن الثمن يمثل ضعفي أجرة التوصيل، وهنا كان لابد لي من سؤاله: ماذا سيحصل مقابل هذه الخسارة؟ وكان رده لا يقل حضارة عن مبادرته، حيث يقول إن كسب قارئ وتحفيزه لبناء علاقة وطيدة مع الكتاب هي الربح الأكبر، أما بخصوص الكتب فقد قال إن بعضها من مكتبته الخاص وبعضها الآخر يحصل عليها من دور النشر بلا ثمن باعتبار المبادرة ترويجاً لقراءة ما يصدرون من كتب.
الأمر ليس جديداً على مدينة البصرة التي بناها العباسيون في القرن السابع، والتي كانت محوراً للتجارة والسياحة في يوم من الأيام. وأصبحت بعد ذلك مركزاً فكرياً ومعروفة بعمارتها ومساجدها ومكتباتها، وخرج منها مفكرون كبار ومفكرون إسلاميون، قبل أن تتحول إلى واجهة سياحية في السبعينات وأوائل الثمانينات.
وتعزيزاً للحياة الثقافية في المدينة، افتُتح في عام 2015 شارع للكتب مشابه لشارع المتنبي في بغداد. ويرتاد بائعو كتب وأشخاص الشارع المسمى شارع الفراهيدي بما يوحي أن الطلب لا يزال مرتفعاً على الكتب الورقية.
المطلوب من المؤسسات الثقافية ومنظمات المجتمع المدني المعنية بالتنمية البشرية أن تدعم هذه الحالة الحضارية لتغدو ظاهرة من خلال تشجيعها وتعميمها.