كُلوا واشربوا دون أنْ تُطعموا أجسادَكم ما يضرّها

جواد غلوم /

كثيرة هي المفارقات في هذه الحياة القائمة على قرن ثور هائج، حياة تبدو غير متوازنة بمعاييرها وسوء عدالتها، ومهما حاول المفكّرون ورجال العدل والمخلصون أن يعيدوا ترتيبها وتقويمها قدر الإمكان لكنّها تظل مائلة نحو الاعوجاج .
تلك هي الديستوبيا الظالمة التي تقابل اليوتوبيا في استقامتها ولنضرب مثالا بسيطا على سوء قوام هذه النظم المجتمعية؛ ففي الوقت الذي تنادي فيه أصوات مخلصة بضرورة مراعاة الصحّة من خلال ممارسة الحمية بأنواعها المختلفة بما في ذلك ريجيم الماء الذي أثبت فعاليته في تقليص مخاطر السرطان إلى أبعد حدّ من خلال تجويعه، إذ من المعروف أنّ خلايا هذا المرض الخبيث نهمة وأكولة بما تفوق نهم أشعب المذكور في تراثنا العربي ولذا فهي تسمى أشعبية نسبة إلى تلك الشخصية المكبّة على الموائد أينما وجدت وتقليل تناول الغذاء السريع مما يسمى ( Fast food ) في السوق والشارع لما تقدّمه مطاعم المذاقات الاميركية والغربية الضارة المليئة بالسعرات الحرارية المؤدية إلى السمنة التي تعدُّ مكمن الأمراض المعاصرة، حيث تقوم بإرباك عملية إفراز هـرمون ( Leptin ) في الدماغ وهو المسؤول عن إيقاف تناول الطعام حينما يشعر الإنسان بالشبع وبهذه الحالة يبقى الجسد يطلب المزيد الفائق عن حاجته من الأكل، وتدريجيا تتولَّد البدانة في الجسد. ولو أصيب المرء بالسرطان – عافاكم الله منه – فإنَّ الجسد البدين المعتاد على الأطعمة الأنفة الذكر قد لا يستجيب حتى للعلاج الكيميائي، لذا كان لزاما على الإنسان ان ينأى تماما عن هذه الوجبات المليئة بالدهون المشبَّعة مما تقدّمه مطاعم الماكدولاندز ومطاعم هارديز الخاصة بالهامبركر ومطاعم كنتاكي المسمّاة KFC، المغرقة بالدهون المهدرجة الضّارة التي حتما مؤداها إلى البدانة المفرطة والتي عُدّت في الوقت الحاضر من الأمراض المزمنة حالها حال الأمراض الشائعة عندنا كالسكّري وضغط الدم وغيرهما، وليس اعتباطا إن وصفت هذه الوجبة بأنَّها وجبة “الذنوب الممتعة” حتى أنَّ مبتكر وجبة الكنتاكي السيد “ساندرز” كان يرفض أول الأمر عملية القلي المفرط للحوم الدجاج لما يقارب النصف ساعة حتى تنضج وتكون جاهزة للأكل، لكن زبائنه الجنود كانوا يفضلونها مقلية عندما افتتح مطعمه البسيط على ناصية الشارع وهو يقلي دجاجه على مرأى السابلة في ثلاثينيات القرن الماضي، إذ حقَّق ربحا وفيرا وإقبالا منقطع النظير وتناسى أنَّه اشترى أدوات مطبخية خاصّة بسلق الدجاج على البخار توخيا للصحّة والحفاظ على قيمته الغذائية، لكن المال والربح الوفير والإقبال المتزايد من الزبائن وبالأخص الجنود جعلته يتَّجه إلى ما نعرفه الآن من وجبة الكانتاكي التي تلاقي إقبالا شديدا على الرغم من مخاطرها الكبيرة على الصحة .
وتتّجه الأنظار حاليا إلى حمية الماء باعتبارها العلاج الحاسم لتقليل البدانة إلى حدّ كبير ومنع السرطانات من الانتشار التي من خصائصها السيئة الخطيرة إحداث الفوضى في الجسد والعبث بنظامه وترتيبه وهارمونيته ونسقه من خلال حرمانها من الطعام الصلب يومين في الأسبوع الواحد على الأقل، فقد جرت تجربة هذه الحمية على فئران تجارب مصابة بالسرطان عن طريق الحقن، وبعد تجويعها ظهرت حالة الاستشفاء عليها وقد استعادت صحتها وبضمنها بعض الفئران التي جرى حقنها بفايروسات لوكيميا الدم، ليس هذا فحسب إنما بدأت تتعافى وتتجدّد خلايا الجهاز العصبي والمناعي وتؤجل شيخوختها بسبب فعالية حمية الماء.ومن المعروف أنَّ الخلايا السرطانية تعشعش في الجسم وتنهم كلّ ما حولها ولا تسلم منها حتى الخلايا السلمية فتدمرها وتضعفها وتمارس خبثها على مضيِّفها حتى تهلكه ولهذا سميت بالخبيثة؛ إنَّها أشبه بالمستعمر الاستيطاني الرابض في أرض لا يريد أن يبرحها ويظل باحثا عن خونة وأتباع يغذونه ليمتدّ ويتّسع أكثر فأكثر وهذه الإتباع هي المغذيات المميتة التي ذكرناها ليستمد منها الحياة والبقاء أطول مدّة ممكنة. لقد كان أسلافنا الأوائل البسطاء والفقراء منهم في الأرياف والمدن يتغذون على الخبز الشعير والتمر مع اللبن الخاثر ويسوّغون طعامهم بالخضراوات وباقات البقدونس والبصل وأعواد الريحان والكرفس وبقية المشهيات الخضراء ويتريضون بالعمل الفلاحي الدؤوب والحركة النشيطة، أمّا من كان موسرا منهم فيزيدها سمكا ورطبا نديّاً وفاكهة ولا يقربون اللحوم الّا في المناسبات والعزائم النادرة دون أن تصيبهم أمراض العصر الحالية لكنّهم كانوا يموتون بسبب البلهارزيا والغرق والنزاعات العشائرية وقد تفتك بهم الأوبئة مثل الكوليرا والتدرن الرئوي وبقية الأمراض الالتهابية، وماعلينا الآن الّا أن نعود لما اعتادوا على تناوله قبلاً مع إضافة ما تصحّ في أبداننا مثل صحن السلَطة وشيء من الفواكه وعصائرها الخالية من السكّر وكوب من الشاي غير المحلّى ولا بأس في الرياضة الصباحية والفكرية مع صفاء الذهن والبعد عن القلق والتفكير المؤدي إلى انقباض النفس وصداع الدماغ؛ فالحمية رأس الدواء وهدأة البال وقلب الشفاء كما قال طبيبنا العربي “الحارث بن كلّدة “. ولنتذكّر أنَّ الدماغ يعلو الفمّ وهو عرش الإنسان وهاديه إلى سواء السبيل فليس بغرابةٍ أن يتأنى في انتقاء ما يريد من طعام ولا يريد أن يكون نهما نهم الفمّ في كثرة شراهته حينما يسيل لعابه مثل حيوان فاقد للعقل ظفرَ بطعام أمامه بعد جوع شديد.