باسم عبد الحميد حمودي/
ليس أجمل ولا أحلى من الفرح وغسل القلوب بالمرح. وفي هذا (التطبيق) العراقي البغدادي –الشعبي القديم ,عاشت بغداد –وسواها من مدن ودساكر العراق, ذلك الفرح الاجتماعي السنوي الذي يتجلى بـ(ليلة المحية).
منذ صباح يومها الباكر تسمع في أماكن متعددة من المدينة دوي اصطدام (البوتاز) بالأرض, حيث تتطاير حصاه الصغيرة وتتنشق الأنوف اللاهية في موقع الاصطدام رائحة البارود المسحون المتفجر. وإذا كنا اليوم نضجر من سماع كلمة تفجير, بسبب (داعش) وجرائمها ومن سبق داعش من سوق النذالات والوحشية العالمية, فإن تلك (المتفجرات ) الصغيرة التي تنتشر ليلة المحية لم تكن لتزعج أحداً لأن هدف استخدامها كان من أجل المتعة والمرح وإعطاء ليلة المحية بعداً صاخباً ليس إلا.
عند ظهر اليوم، وقبل أن يقبل ليل السهر والإحياء, تقل أصوات البوتاز في الشوارع, فلا بد من قيلولة تمهد للاستعداد لقضاء تلك الليلة بكل تفاصيلها.
ليلة للعبادة أولاً
ليلة مكة والإمام المهدي
ولابد لنا من التأكيد بداية أن ليلة النصف من شعبان المبارك هي ليلة عبادة وسرور بمولد الإمام المهدي عليه السلام وهو الإمام الثاني عشر من سلالة الأئمة المعصومين والحادي عشر منهم من نسل الإمام علي بن أبي طالب عليه سلام الله, وأسباط الرسول (محمد) عليه أفضل الصلاة والسلام . وبولادة الإمام الثاني عشر يحتفي المسلمون ويبتهجون وتزداد زيارة دور العبادة تلك الليلة المباركة طلباً للغفران والتهجّد.
ويقول الثقاة أن الفرح الشعبي بمولد الإمام استحال عند عامة الناس الى فرح غامر يتجلى في طقوس لاتتصل بالأصل التاريخي بل بتطور الفرح عند العامة المكروبين الذين يجدون في مسرة الليلة مناسبة لتطوير أساليب الفرح لديهم.
ويحتفي المسلمون أيضاً في كل بقاع الأرض بهذه الليلة المباركة لأنها الليلة التي تسبق فجر اليوم الذي أمر فيه النبي محمد عليه الصلاة والسلام بتحويل (القبلة) حيث يتجه المسلمون للصلاة في الأوقات الخمس من (القدس) الى (مكة المكرمة) في السنة الثانية من الهجرة,وبذلك كانت (القدس) أولى القبلتين .
لذا يكثر المؤمنون من الصلاة والاستغفار وطلب السكينة ووفرة الرزق والدعاء للأحباب بالخير وللمسلمين جميعاً .
حركة المرح الشعبي
يستعد رجال المحية ونساؤها,ونقصد هنا شباب محلات الفناهرة والسور وتبة الكرد وابودودو والكولات وسواها في الرصافة, وشباب الشواكة والتكارتة وسوق الجديد والست نفيسة وشيخ صندل والشيخ علي والشيخ بشار وسواها من محلات الكرخ,يستعدون قبل الليلة المباركة بالتحضير (المتقن ) لأنواع البوتاز وشرائه من بيوت محددة تتقن صناعته في تلك المحلات وشراء (الزنابير) و(الطَرَقات) من أسواق الشورجة بأسعار مناسبة ,وكم تكون الحاجة الى الزنبور والطرقة ساعة اشتداد المعارك المرحة بين (الجوارين) فيكون اللجوء الى الدكاكين المنتشرة في درابين المحلات ضرورياً لشراء حاجاتهم بأسعار أعلى لا يبالي بدفعها كل محتاج لإثبات القوة و(الرجولة) والهزيمة الضاحكة للجار.
يجاور تلك الاستعدادات استعداد الشابات من عذارى ونساء لشراء الرقوق (الدنابك) التي تستخدم ليلة المحية للعزف والغناء وسط تجمعات لاهية, ويتحكم باعة الخزف بأسعار هذه الرقوق وهم يبيعون الى جوار الدنابك حباب الماء والأباريق والتنك(المشارب) وسواها , ويمارس الباعة لعبة العرض والطلب بذكاء فهم يخفون الكثير من الرقوق ويعرضون القليل فإذا اشتد الطلب عرضوا بضاغتهم تدريجياً وبأسعار أكثر ارتفاعاً ترضى بها الحسناوات، فالليلة قادمة ولابد من الفرح والعزف فيها.
هيه فرد هالليلة
أجل (هيه فرد هالليلة وباكر مفارجيها) أي هي هذه الليلة الوحيدة وغداً نفارقها,ولابد من الفرح فيها .تلك أغنية تردد وسط تجمعات الشباب ودقهم على الدفوف والرقوق وهم يدورون في محلاتهم يتصدرهم العازف الأمهر على الرق الأكبر ويجاوره الصادح المغني الأعلى صوتاً حيث يصدح بأنشوداته فيما الآخرون يرددون :
يانايمين الليل ياكفاره انتو شبعتوا نوم واحنه سهاره
والتعريض واضح بمن لم يشارك المحتفلين مرحهم وهم يسهرون محتفلين بإحياء تلك الليلة المباركة.
ويرددون أيضاً( هاي المحية ونحييها وباجر باجر نطويها )
وتردد البنات الشابات من بنات قبائل عقيل بالكرخ وهن يضربن الدنابك :
احنا بنات اعكيل مابينه دغش
اننزل الخيال من ظهر الفرس
والمعنى واضح يشير الى اعتزازهن بجمالهن وقدرتهن على انزال الفارس من ظهر فرسه ..اذا شاهدهن .
احتفالات النساء
للطقس الشعبي الاحتفالي اصوله,ففي البيوت (المعتبرة) في محلات الكرخ والرصافة يجري الاحتفال النسائي بدعوة الجارات لتناول أنواع عدة من فستق ولوز وكرزات مشكلة حيث تقدم في قراطيس (أكياس) صغيرة للجالسات , فيما تقدم في صحون صغيرة للجالسات قريباً من سيدة المنزل في صدر الجلسة, وتقدم أحياناً صحون (الزردة) و(الحليب), وهما نوعان من الحلويات الشعبية التي تطبخ وتوزع في المناسبات .
وتقوم (الملاية) وبناتها بتقديم نوع من المناجاة الذِكرية للواحد الأحد وللنبي الأكرم ولآل بيته الأطهار, فاذا انتهى فصل الذكر واستراحت الملاية قليلاً لتبدأ فصلاً آخر من الأغاني والأناشيد التي تتصل بالمحية والفرح الى فترة متأخرة من الليل, فيما تسمع أصوات الجوقات والأغاني الشبابية وضربات البوتاز والزنابير والطرقات خارج المنازل وفي الأزقة والشوارع
حيث تتجمع الفتيات للمشاهدة عند أبواب البيوت وهن يرتدين عباءاتهن او يصعدن الى سطوح المنازل لرؤية الجوقات المحتفلة من الشباب.
إذا تعب السامر
إذا اقتربت ساعات الفجر هدأ السامرون الساهرون وانزوى معظم الأطفال الى بيوتهم, وقلت جولات الشباب في الأزقة واتخذت بعض الجوقات الشبابية أمكنة ثابتة عند رؤوس الأزقة حيث يجلسون ويبدأ الدف والرق فعلهما الجميل مع أصوات القادرين منهم على الغناء الجميل.
وعند الفجر يذهب الشيوخ والشباب المؤمن الى دور العبادة لأداء صلاة الفجر وتهدأ أصوات الاحتفالات والطرقات والبوتاز، فقد بلغ المحتفلون غايتهم في إحياء تلك الليلة المباركة.