محمود شبَّر في “بغداد ترحب بكم”.. كنت أراه هناك

أحمد هاتف /

في ذاك الفردوس المربع.. بجانب تمثال او قرب كاسة شاي.. وربما ضاحكاً قرب مسند لوحة.. كان ابناً لشاكر نعمة، التشكيلي والنحات الحلّي المعروف.. غير أنه لايمتلك سمرة شاكر.. ولا أساه الطافح بعيونه.. كان مائلاً الى الشقرة.. وسيماً.. معتداً بنفسه كما مسلة حمورابي ” هذا هو طبع الحلّي” ..
كانت خطوط محمود شبَّر راعشة، ضاحكة، مستقيمة، دافقه.. وكان شديد الشغف بهذي المدينة التي تحمل اسم بغداد.. بباراتها ونسائها وترف جدرانها ونارنجاتها، وماتبقّى من شجر الشبوي في طرقاتها.. لم تك تعنيه صرخة مبعد مثل موفق أبو خمرة (أعطِني الحل.. فلقد أرهقني هذا العَرقُ الدولي الفٌل).. لم تك تعنيه انحناءة عبد القادر العزاوي.. ولا يعنيه الالتباس بنصوص”يوسف الصائغ”، كان فتى قرر أن يحيا مستقيماً كنص رعوي لعيسى حسن الياسري.. لذا فتح باب ضحكاته ليمر دجلة الى روحه.. وأمسك بيد بغداد ليتزوج نافذة ظلت مكسورة في ذاكرته.. محمود شبَّر “وَلَد الحرب الأولى.. حرب السنوات القاهرة”، والمعاصر الصامت لأمهات المعارك التي لاتنتهي.. يطوي زمنه.. ويفارق بغداد مغترباً كما جاء إليها.. الغربات أمهات سيئات السمعة دائماً، لذا مايلبث أن يجف حليبهن فيقذفنك الى رحمك.. لكن أي رحم ذاك الذي ستعود إليه وقد فقدت عفويتك وتراكم الثلج والغبار في صوتك، ولم تعد تستطيع أن تقرأ النص الشعري دون أن يصرخ نهر على كتفيك.. وتتلوى عشبة في عينيك.. عاد محمود شبَّر.. بألوان أخرى لاتشبه طفولاتك.. ليقف أمام ذاكرته.. لافتة عريضة ” بغداد ترحب بكم”.. ثمة ما لايشبه الشمس هنا وهي تتمدد كقطة لم تجد الملاذ.. ثمة صفاء عتيق يشيخ.. ثمة سمرة لاتضحك.. ولون تركوازي مكسور.. ليست المدينة في المدينة.. لا أحد هناك خلف الموعد سوى آخر أَجل موته قليلاً.. لذا لم يعد النهار يتريث وهو يمر مترندحاً قرب سمير اميس.. ولم تعد شجرة الياس الى أقصى زاوية في جمعية التشكيليين.. إنه الرماد والفايبر كلاس المزكوم برائحة حرائق مكثت طويلاً في الضجيج .. بغداد ترحب بكم.. لكن أي بغداد خلف اللافتة..! بغداد أكنس بشير، والأحمر الضاحك في قميص رافع الناصري.. والهدوء العابق بالرؤى في عيون محمد علي شاكر، والصبح اليلاعب شال مخلد المختار الإيطالي المورد..! أم بغداد الرصاص الكتب طويلاً أعمار المضوا بالصدفة الى الغياب.. بغداد الحدائق التحولت الى مخازن للعُدد والأغذية المستوردة. . ظل يجول هناك بحثاً عن بقايا الظل الغارب على اللافتة.. غير أن الغبار أثقل من أن تحمله رائحة الغروب المنهك على مفترق الدورة / السيدية.. لاظلَّ في الظل.. ولا امرأة هناك يسار التمثال القابض على الوقت في مدخل معهد الفنون الجميلة.. أذن رجل رمادي يقف تحت ظل منهك ولافتة عجوز.. ربما ستهرب الصورة اليانعة من ألبوم الذاكرة.. ربما سيصحو التمثال متأخراً ليبحث عن الأصفر الضاحك في اللوحة الأولى على مسند الرسم .. إنها لعبة الظل والضوء.. درس رامبرانت العتيق يامحمود.. لم تك تعتقد أن فان كوخ كان جاداً حين قطع أذنه.. لم تك تعتقد أن لوتريك كان حزيناً حين رسم تلك الأجساد المثقلة في الحانات.. كنت تراه سوداوياً فاشلاً.. إنها لعبة الضوء حين يشُح.. الأمل حين يتعثر.. المدّ حين ينحسر.. المدن كما الحبيبات تشيخ أيضاً.. يجف ماء الوجنات.. وتنفر العروق في اليد، ويتجعد ماتحت العيون.. وتوهن الخطوات.. لكن النبض حيّ تحت خشب العمر.. مايزال في الماء ماء غير أن الشمس نكدة.. والغبار ولد الوقت العابث.. لكن السؤال: هل بغداد ترحب بكم حقاً؟