خضير الزيدي /
ما أن يذكر العراق القديم حتى تتناهى لذاكرتنا أرض سومر وبابل وأكد ودولة الآشوريين ومنجزات بعثت تلك الحضارة العريقة حيث الألواح واللقى وقطع الفخار والأشكال القرصية بالإضافة إلى كثرة المعابد والقلاع والمنحوتات التي تدل على ملوك تلك الحقب وتأثيرها في الأمم الأخرى.
وقد دلتنا المكتشفات الآثارية والحفريات التي عملت عليها البعثات الغربية في منتصف القرن الثامن عشر إلى نتائج ذات أهمية لا تقل عن وجود المعابد والجدران المكسوة بالرسوم والمنحوتات فهناك ما هو أكثر أهمية من كل ذلك وتكمن منزلته في تعدد المدارس ونشأتها وطريقة حفظ الألواح التي تشير إلى دراسة علوم الفلك وحركة الكواكب والنجوم مع الاهتمام بقواعد ونحو لغات تلك الأقوام المندثرة.
المكتشفات توثق إحياء التاريخ
أولى المدارس التي أعطى لها الآثاريون مكانة تكمن في (سبار) المكتشفة من قبل البعثة الانكليزية (1878 / 1879) برئاسة هرمزد رسام الموصلي وكان برفقة اوستن هنري لايارد، فعلى يديه مع فريق عمله تم اكتشاف مئات الألواح الطينية والرقم الآثارية وقد وجدوا في متنها علامات الكتابة ومقاطع لغوية تبين موازين الأفعال وتصريفها. وأيضا اكتشفوا في بعض الألواح ما يشير لمقاييس جدول الضرب وعلوم الرياضيات. وقادَ اكتشاف هذه المدرسة إلى معرفة عدد غرف الطلاب وملاحق ساحتها المربعة أو المستطيلة. جدير بالذكر هنا أن تاريخ مدرسة سبار يعود لمرحلة العصر البابلي وتحديدا عهد حمو رابي (1792/1750) قبل الميلاد ما يؤكد تقدم العلوم الإنسانية في تلك المملكة. أما الحملة التي قادتها البعثة الفرنسية سنة 1853 برئاسة جول اوبر jules porter) ) فقد توصلت لمدينة (كيش) التي وجدوا فيها مدرسة قديمة تعود في تاريخ نشأتها لعصر (أسسن) والعصر البابلي الجديد. ومن أُسس وقواعد تلك المدرسة أن يكون التلميذ ملزماً بتعاليمها ومعارفها، وقد ميزت البعثات أن من مواد تلك الألواح ما يشير إلى الطرق الدينية والأدبية والنحوية، أما البعثة الأميركية بزعامة الآثاري الشهير بترس فقد حفرت عام 1889 في خربة من ارض نبّور الواقعة على نحو مئة ميل جنوب بابل واكتشفت مكتبة كبيرة تضم العديد من المؤلفات بالإضافة للرقم الطينية وغلب على محتوياتها أنها تضم كتب التاريخ والرياضيات والقانون. وتشير الدراسات التي وثقتها البعثات في القرن الثامن عشر إلى أن في معبد الألواح عرفوا ما يميز الألفاظ المترادفة عن غيرها والرقم الرياضية ووجدوا قوائم بأسماء بلدان وأحجار وجبال وحوادث لتاريخ قديم. وتوضح التنقيبات لنا كقراء لما نتج عنها بأن إسفار التدريس يومذاك كانت تتألف من طين غير مطبوخ موضوعة على الخشب وتغطى بالقار لكي لا تصل إليها الرطوبة، ولا تختلف كل تلك المدارس عن أهم مدينة في العراق القديم وهي (أرك) وقلاعها ومكانتها المقدسة فـ(أرك) أو الوركاء مر عليها المنقبون كثيرا حافرين فيها طويلا ومن أشهرهم المنقب لوفتس ((loftus سنة 1854 كاشفاً النقاب عن هيكل تاريخي لإلهة الحب عشتار، واستمر التنقيب في الوركاء حتى عام 1939 لتصل إلى أهمية مدارس تلك المدينة متوقفين عند نصوص العلوم الإنسانية المتنوعة والكهنوت معاً.
تاريخ مدارس اليهود
استوطن اليهود ارض بابل، تلك المدينة التي لا تخلو من معالم الثقافة والعلوم والفلك وتعدد المعابد بين أرجائها. ولكن ما يدونه لنا التاريخ أن المدن العراقية التي ظهر فيها اليهود بكثافة تتجلى في مدينة (نهر دعة) والكلمة معروفة في اللغة العبرية إذ تتكون من كلمتين تعني نهر الحكمة أو نور الحكمة، ومدينة (فومبديثة) وكذلك مدينة (سورا)، والمشهور فيما يخص مدرسة نهر دعة القريبة من عانة انها لم تستمر طويلا لوجود التخريب في تلك المرحلة من تاريخ العراق، وفيما يخص نظامها التعليمي فنجد أنها مدرسة دينية لها شهرة واسعة برز من أعلامها الحبر صموئيل الفلكي الذي أرسا تعاليم صارمة في وضع العلوم الدينية والطبيعية ولا تختلف هذه المدرسة عن منشأ وطريقة التدريس في مدرسة فومبديثة في الأنبار التي تعد هي الأخرى من أهم الصروح العلمية التي تبنت دراسة التلمود في العراق.
ويذكر صاحب كتاب (نزهة المشتاق) وكتاب (رحلة بنيامين) بأن الحبر يوسف بن شيجا قد ترأسها في القرن الرابع الميلادي. أما آخر رؤساء تلك المدرسة وحسب ما متواجد في مصادر التاريخ فهو هاي بن شريرا المتوفى سنة 1034 ميلادية. وإذا ذهبنا بعيدا باتجاه مركز مدينة بابل الأثرية فسنتوقف عند مدينة (سورا)، فعند هذا المكان عمل اليهود على إحياء تراثهم وتعاليم دينهم ولعل المميز من بين أسماء وأقطاب تلك المدرسة هو الحبر ابا اريخا المتوفى 247 ميلادي ويوسف الفيومي ويهوداي البصير بن نحمن وتذكر المصادر ومعالم التنقيبات الأثرية لنا بان صموئيل بن حفني المتوفى سنة 1034 كان آخر من أدار تلك المدرسة مهتما بالعلوم كافة دون التأكيد على الجوانب الدينية.
مدارس المسيحيين في العراق
لم تخلُ ثقافة وعلوم المسيحيين من إحياء المدارس التربوية فقد عرف عنهم التفقه في اللغة الآرامية وغالبا ما كانت ادعيتهم تتلى بها، فمنذ القرن الرابع للميلاد أرسوا الدعائم لتطوير المدارس اللاهوتية وعرفت قوانينهم بالصارمة. ولعل من الضروري الإشارة إلى طريقة الكتاتيب التي لازمها المسيحيون في التدريس. وقد بينت اغلب التنقيبات عن دوائر اهتمام متعددة لما عمل عليه المسيحيون في إضفاء مادة التجارة والطب ومتابعة التاريخ الطبيعي بالإضافة لتفاسير الكتب المقدسة واللاهوت. وتعد مدارس الكنائس من أقدم المكتشفات التي تبين لنا تعدد أمكنة العلوم ويشار هنا إلى اسم إبراهيم الكسكري المتوفى 120 للميلاد كأول شخصية أسست لبناء المدرسة في الكنيسة وسار على منهجه مار ميخا البانوهدري والراهب كيوركيس. وتعد مدرسة مار ماري من أوسعها حضورا وقد مر ذكرها في كتاب معجم البلدان وتقع على مسافة تسعين كيلو متراً جنوب بغداد وتحديداً في منطقة العزيزية. ومن بين أهم الشخصيات التي درست فيها زهاء أربعين عاما هو العالم أبو بشر متى بن يونس. ونقف عند صرح علمي آخر يسمى مدرسة دير مار ميخائيل الواقعة غرب مدينة الموصل فقد خرّجت علماء في اللغة والنحو واللاهوت وكل هذه المؤشرات إنما تنبهنا إلى أن ارض الرافدين كانت معطاء تمتلك زمام العلوم الإنسانية وتسعى لنشر ثقافة حقيقية دالة على مكانة العراق بين دول العالم القديم، لهذا لا غرابة حين نقرأ في سجل التاريخ بأن المؤرخ الشهير توينبي يقول عن العراق انه مركز الأرض ويجدد تأكيدها وزير الخارجية الأميركي فوستر دالاس بأن العراق اخطر بقعة على الأرض، لا غرابة في كل ذلك، وقد سبقهم المؤرخ المسعودي بجملته الشهيرة “أن من يستحق لقب ملك الجهات الأربع ليكون إمبراطوراً كان عليه أن يحتل العراق.”