باسم عبد الحميد حمودي /
ولد قاضي القضاة محمود خالص أمين في بغداد سنة 1899 وتوفى فيها في التاسع من شباط 1981, وكان آخر عمل له قبيل تقاعده هو منصب رئيس محكمة التمييز في العراق, وهو أعلى منصب قضائي في العراق أيامها, وكان من واجباته تعيين الحكام( القضاة ) والإشراف على أعمالهم.
اشتهر محمود خالص بالجرأة والشجاعة والعدل في الحكم, وقد سببت له اتجاهاته الدقيقة في العمل مشكلات كثيرة كان آخرها مع رئيس الوزراء الزعيم عبد الكريم قاسم الذي صادق على إحالته إلى التقاعد في الموعد المناسب دون تجديد ولم يصادق على إعارته إلى ليبيا للعمل فيها رئيساً للهيئة القضائية.
يقول الأستاذ مير بصري في كتابه (أعلام السياسة في العراق الحديث) ج2 ص577 عنه إنه كانت له مواقف صلبة في تعزيز استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية ما تسبب في تنحيته عن منصبه.
مذكرات الستين عاماً
وضع محمود خالص يومياته على مدى ستين عاماً بدأ بها منذ عام 1920 حتى عام 1980 وجمعها وأشرف على طبعها ولده د. وليد محمود في جزءين كبيرين تألفا من 1584 صفحة وصدرت تحت عنوان (ذاكرة ورق)، وكانت سجلاً حافلاً بتصوير الأحداث وأجندات السياسة والأدب والصداقات ومصائر الناس وسلوكهم المختلف من شخص إلى آخر.
ونختار من هذه اليوميات بعض تفاصيلها للقراء الكرام:
تركة زعيم
يقول د. وليد محمود في نهاية تقييمه لمذكرات والده إنه ظل يحتفظ في غرفة مكتبته الخاصة بصورة وحيدة للمهاتما غاندي زعيم الهند وفيها ما كانت تحويه تركته وهي صورته الشخصية، ونظارته الرخيصة المشهورة، وكتاب الصلوات، وساعة زهيدة الثمن، وصندل ونعل، وتمثال القردة الثلاثة، ولو شاء غاندي لملك الدنيا.
11تموز1926
صدرت إرادة ملكية بنقل الحاكم (القاضي) في البصرة محمود خالص إلى مدينة الحي, وبعد ستة أيام من صدور الأمر اشترى خالص كرامفوناً وبضع قوانات (اسطوانات)، وقد كلفه ذلك (110) روبيات كما جاء في مذكراته، والروبية عملة عثمانية كانت تستعمل وتعادل 75 فلساً.
السفر عبر السفينة
بين 18تموز حتى 21 من نفس الشهر يصور محمود خالص حركته بواسطة الباخرة (قادري) التي أقلته عبر نهر دجلة صعوداً الى الكوت مروراً بالعمارة والعزير خلال هذه الفترة, حتى وصل الحي صباح الخميس(22تموز) بالسيارة ليبدأ العمل حاكماً منفرداً للقضاء.
متصرف الكوت يسحب دعوى قتل
إضافة إلى عمله في الكوت، فقد عين كاتب المذكرات عضواً في المحكمة الكبرى في الكوت للنظر في دعاوى القتل وما شابه.
وكان لواء الكوت (محافظة) وغيره من الألوية قد خولت الدولة فيه المتصرف (المحافظ) النظر في دعاوى العشائر استناداً إلى قانون خاص بها, وهو قانون موضوع لخدمة الأعراف العشائرية, ويقول محمود خالص إنه حضر جلسة المحكمة الكبرى في الكوت مع زميله القاضي محمد حسن كبّة وبرئاسة القاضي فائق الآلوسي صباح يوم الثلاثاء21أيلول 1926 واستمعت المحكمة إلى شهادات الشهود بحق قاتل خالته المدعوعبيد الردام, ويقول أيضاً: (ثم وردت بطاقة من المتصرف يقول فيها للرئيس أن اوقف أمر المحاكمة حيث أوقفنا المحاكمة حيث سحب المتصرف الدعوى ليراها هوحسب قانون دعاوى العشائر)!
1951: بيت شعر مختار للملكة عالية
في يوم الثلاثاء، الثاني من كانون الثاني 1951، كتب محمود خالص في يومياته البيت التالي:
متى تجمع القلب الذكي وصارما
وأنفاً حمياً تجتنبك المظالم
ويقول إنه قرأ هذا البيت منذ عشرات السنين ولم يبق في ذاكرتي حتى ذكرتني به صحيفة قالت إن الملكة المرحومة (عالية) كتبته على غلاف أحد الكتب وأهدته لابنها الملك (فيصل الثاني), ويعلق خالص بالقول:
لو كان هذا شعار كل رجل لأصبح الناس ملوكاً أجمعين.
مات خادم القاضي
في اليوم الثاني من شهر كانون الثاني مطلع عام 1952 يكتب خالص أنه ذهب إلى دار المرحوم القاضي عبد القادر صالح حيث تقام الفاتحة على روحه فوجد صهره جالساً ولم يجد معه إلا القليلين فيعلق قائلاً:
(هذه أخلاقهم. مات خادم القاضي فمشت في جنازته المدينة كلها ومات القاضي فلم يمش في جنازته أحد).
الضيوف الأجانب والعراقيون بعدهم
في مساء يوم 15تموز 1959 أقيم احتفال رسمي بذكرى ثورة تموز في حدائق نادي المنصور برعاية رئيس الوزراء, ويصف خالص الحفل والألعاب النارية فيه ورقص الفرقة الأذربيجانية الحاضرة ثم نداء مذيع الحفل داعياً الحضور إلى تناول العشاء معلناً أن الحركة تتم أولاً للضيوف الأجانب ثم للعراقيين والوزراء, وقد سببت هذه الدعوة أمتعاض كثيرين فخرج محمود خالص من الحفل محتجاً ومعه مدير الشرطة العام ومدير العدل العام.
في يوم 18 من تموز رفض كاتب المذكرات الذهاب إلى حفل أمانة بغداد خشية الأهانة وعدم اللياقة.
17 ولداً وبنتاً
يوم الأربعاء 16 من أيلول 1959 زار ياسين آغا (من أربيل) كاتب المذكرات وتحدث معه طويلاً، ومما قاله إن الوزير عوني يوسف قال لشخص يعرفه إن أباه كان متزوجاً من سبع نساء فلم يولد له ولد غيره، وإنه متزوج من واحدة وله منها سبعة عشر ولداً بين ذكر وأنثى, وهو يعلق على ذلك بقوله تعالى (يرزق من يشاء بغير حساب).
وتستمر اليوميات
حتى تاريخ السادس من كانون الثاني يستمر محمود خالص بكتابة يومياته التي دأب على تدوينها خلال ستين عاماً وفيها الكثير من التفاصيل الإدارية والقضائية والسياسية، ونقد العادات والتقاليد بصفاء نية وشجاعة وأدب جم وقدرة على الاقناع او المخالفة، وتعد بذلك من الوثائق الاجتماعية والسياسية المهمة في زمنها.