مرقد أبي حنيفة النعمان.. مَعلَــمٌ عمرانيٌّ معطرٌ بالإيمان

خضير الزيدي – تصوير: حسين طالب /

للمراقد الدينية والتاريخية في العراق أهمية كبيرة، اكتسبت طابعاً سياحياً مختلفاً قياساً بالكثير من الدول الشرقية، التي تسمو بالمراقد، لاعتبارات روحية وإيمانية. وتكمن أهميتها في الاعتبارات ذات الشأن العمراني والديني والنفسي، يضاف إليها هاجس الأعراف الاجتماعية الذي طبعها بطابع شعبي أضفى على المكان قدسية ومنظراً براقاً.
في بغداد، كما في الكثير من المحافظات الأخرى، نجد العديد من المراقد الدينية ذات الشأن التاريخي يؤمها أناس من طوائف ومذاهب مختلفة. وكما هو معلوم في فترات معينة من تاريخ العراق المعاصر، فقد استطاعت وزارة الثقافة والسياحة في العراق أن تأخذ على عاتقها الاهتمام ببعض المراقد في مرحلة ما من عمر العراق المعاصر، وكذلك المؤسسات الدينية.
والمهم عندنا هو ما يزخر به العراق من أنماط الأبنية التراثية ذات النكهة الدينية لأماكن ومواقع تثير السيّاح من المسلمين، ممن يوجهون شطرهم صوب العراق. ومن بين تلك المراقد الدينية ذات الاعتبارات الروحية المهمة مسجد ومرقد الإمام أبي حنيفة النعمان…
مقبرة الخيزران
يذكر غالبية المؤرخين التاريخين أن الإمام الأعظم أبا حنيفة النعمان كانت ولادته في الكوفة سنة (80 هجرية -701ميلادية)، ولا نرى اختلافا في ما ذهب إليه الآخرون ممن بحثوا ونقبوا في سيرة هذا الرجل التاريخية، إذ عاش أبوه في الكوفة في زمن خلافة الإمام علي (عليه السلام)، وإن كانت أصوله غير عربيه.
وتشير الدراسات التاريخية إلى أنه عاصر -في فترة من حياته- بعض المعمّرين من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذين نهلوا من مدرسة الوحي والإيمان. ولا غرابة حين نجد في هذه الشخصية امتداداً حقيقياً لأولئك الأبرار من الرجال الصالحين.
أما عن وفاته، فقد أشار التاريخيون إلى سنة 150 هجرية المصادفة 767 ميلادية، وقد دفن في موضع يعرف بمقبرة الخيزران، التي تنسب إلى الخيزران بنت عطاء زوج الخليفة المهدي، والدة الخليفتين هارون الرشيد والهادي، تعرف اليوم بمدينة (الأعظمية)، إذ قضى سنواته السبعين عالماً ورعاً جليلاً فقيهاً.
مدرسة دينية
شهد مرقده الكثير من التغييرات التي طرأت على بنائه منذ زمن بعيد، فقد تجدد بناء المرقد على يد(شرف الملك أبي سعد الخوارزمي) في العهد السلجوقي، ومنذ ذلك الزمن شيدت بالقرب منه مدرسة دينية للحنفية، أما عن قبته –حينذاك- فقد كانت على طراز الفن السلجوقي، وبقيت بناية المسجد حافلة بالنقوش ذات الطراز الفني العربي الجميل الذي أدهش العالم بالفن التجريدي، حيث الزخارف الإسلامية والكتابات القرآنية المطرزة -هي الأخرى- بالفن الفسيفسائي. في داخل المرقد الشريف، يقف الإنسان متأملاً أمام هذا الصرح التاريخي والقامة الدينية الكبيرة، التي حفلت بالعطاء والعلم والفقه، فالأواوين والأروقة تستهوي الزائر في بنية طرازها الشكلي وماهيتها اللونية والتعبيرية، وهذا الأسلوب هو من فن العمارة الإسلامية المدهش، إذ نجد تحت قبته طرازاً معمارياً قلّ نظيره في عالم الفن اليوم، وكلها تشكل جمالاً في البناء والتصميم الفني الجذاب.
في سنة 1066 خلال عهد السلطان السلجوقي (ألب ارسلان)، بنيت قبة مرقد أبي حنيفة، أما تاريخ الجامع الذي يؤمه المؤمنون اليوم بشكل كبير وتقام فيه صلاة الجمعة والعيدين، فيعود إلى سنة 1871 ميلادية. ولم يكتف القائمون عليه بهذا القدر من البناء، بل توسعت رقعته وازدادت يوماً بعد يوم على يد ملوك ورؤساء حكموا العراق.
حكي وكتب الكثير عن هذه الشخصية التاريخية التي ورثت حب العلم والفقه عن أهله وأسرته، وسعى منذ نعومة أظافره لحفظ القران وعلوم الحديث، فقد تتلمذ على يد شيوخ بارزين في تلك الفترة التاريخية. ومما زاده علماً وورعاً ما تعلمه على يد سبعة من صحابة رسول الله، وثلاثة وتسعين من التابعين، منهم حماد بن أبي سليمان، وهذا الجليل يعد شيخه الذي زوده بعلوم الفقه، وبعد وفاته آلت لأبي حنيفة النعمان رئاسة حلقات الفقه وكان عمره أربعين عاماً، وهو من أتباع مدرسة الرأي، عرف بدقته في استنباط الأحكام الشرعية، ليس الظاهر منها فحسب، بل تعمق بعيداً في بواطن المسائل، وكان صارماً في وضع شروط نقل الحديث النبوي.
الفقه الأكبر
درس أبو حنيفة عند الإمام الصادق (عليه السلام)، وأخذ منه دروساً كثيرة في الفقه والعلم والورع، وله مؤلفات كثيرة، من أبرزها: الفقه الأكبر / الوصية / رسالة الإمام أبي حنيفة إلى عثمان البتي، وغيرها .
في فترة امتدت ثماني سنوات من عام (1921 /1929 ) شيدت واحدة من روائع هذا المزار المهم في بغداد وكانت بحق معلماً تاريخياً ترك رونقاً جمالياً، تلك هي الساعة التي صنعتها يد المرحوم الحاج عبد الرزاق محسوب الأعظمي، في معمل له، وكانت معروفة للقاصي والداني، التي اشتهرت بضبط الوقت ومتانة العمل. ويذكر لنا الكثير من شيوخ ورجال الأعظمية أن وقت نصبها كان عام 1958..
يعد الإمام الأعظم واحداً من الفقهاء المهمين في العصور الإسلامية، ومكانته التاريخية أملت علينا أن نذهب إلى واحاته العطرة، المليئة بالإيمان والتقوى، لنشاهد تلك الأجواء الروحية ومعالم الفن والنقوش ونحن نجوب أنحاء ضريحه المقدس.