خضير الزيدي /
يجرُّ السبعيني أبو مرزة خطواته بصعوبة متكئاً على ذراعي ابنتيه الشابتين ليكون أول من يدلي بصوته في مركز الإسكندرية الانتخابي، تتبعه زوجته أم مرزة، وهي سيدة طاعنة في السن تبدو على ملامحها آثار سنوات مريرة في مواجهة حياة قاسية.
يخبرنا العم أبو مرزة، البالغ من العمر سبعين عاماً، أنه لا ينبغي أن يكون لليأس مكان في حياتنا مهما واجهنا من أوضاع سيئة في الكثير من نواحي الحياة، ويؤكد بحماس تمسّكه وعائلته التي حضرت إلى مركز الاقتراع بفرصة إحداث التغيير من أجل مستقبل أفضل لأبنائه وأحفاده.
يفسر أبو مرزة سبب حضوره المبكر بالقول: “أريد أن أكون قدوة لكم جميعا نحو التغيير من خلال هذه الممارسة، لدي أمل في أن تكون أصواتنا سبباً في إحداث التغيير.”
تقول ابنته الصغرى: “لم أكن أرغب بالمجيء إلى مركز الاقتراع، كنت مترددة أتساءل عن جدوى المشاركة في الانتخابات، لكن حماس والدي جعلني أخجل من نفسي، لهذا طلبت مرافقته إلى جانب أختي ووالدتي.”
زوجة أبي مرزة عجوز طاعنة في السن ومتعبة، لكنها من دون أن تعلم فإن وجودها في مركز الاقتراع إنما يعطي رسالة أمل إلى الشباب والعوائل المتلهفة للمشاركة الديمقراطية.. إنه درس بليغ.
تقول أم مرزة: “هذه فرصتكم، وهذا مستقبلكم، تخرجون للتظاهرات وتعتصمون وتتذمرون من الواقع، انتخبوا من ترونه نزيهاً وصالحاً، هل يعقل أن العراق خلا منهم؟ هل من المعقول أن كل هذه الصور -نساء ورجالاً- ولا أحد يمثلكم، يا الله ما هذا المنطق؟”
بدت على ملامح وجوه الشباب حولها إمارات الاستغراب والذهول وهم ينصتون باهتمام إليها، إنها كلمات أم مكلومة تبحث عن تجديد واقع حياتها، لذا فقد فسح لها الشباب المجال لكي تدلي بصوتها، بل تسارع العديد منهم لالتقاط صور تذكارية مع المعلم المتقاعد أبي رفل، وهو شخص في التاسعة والستين من العمر قضى شطراً من حياته في مدارس المسيب، وتربى على يديه بعض شعراء وأدباء المسيب والإسكندرية، فقلت له: معلمي الحبيب أنت هنا للمشاركة ؟ أجاب: “ولم لا؟ هل تريدني أن أبقى أسير البيت؟ أنا أنشد تحقيق أحلامنا وأحلام هذه الأجيال، نعم سأدلي بصوتي، وأعتقد أن هناك الكثير ممن يمثلني في هذه الدورة البرلمانية، نحلم ببناء عراق يشبه بلدان الخليج على الأقل، لا أريد للعراق أن يشبه أوروبا، لكن لنجعله كما الإمارات من بنايات وطرق وجسور ومسارح ونوادٍ ترفيهية، هذه أحلام كان يفترض أن تتحقق للجميع بعد زوال السلطة السابقة، لكن لم نرَ تغييراً منشوداً، فهذا أنا وهذه خالتك أم رفل معي سنصوت لصوت نسائي.” يبتسم أبو رفل أمام زوجته، ويقول: “المرأة نصف المجتمع، فلتكن نصف مقاعد البرلمان لها.” تترك أم رفل ابتسامتها وتتوجه نحو أحد مراكز الاقتراع لتناصر إحدى المرشحات.
ليس ببعيد من ناحية الإسكندرية، توجهنا إلى قضاء المسيب، كان كل شيء هادئاً سلساً أمامنا، كنت أفكر كيف تلتقط كاميرتي العجائز وكبار السن من آبائنا وأمهاتنا، ذهبت باتجاه العم أبو خالد، وهو من العسكريين القدامى، تبادلنا أطراف الحديث والتحية، فقلت له: أخبرني ما الذي أتى بك إلى هنا، ألا تشعر بالتعب؟ قال: لا فقد تعلمنا على التعب يا ابني. سألته: لكن ما الذي تطمح إليه بعد أن امتلأ الرأس شيباً؟ أجاب: “أطمح بعراق خال من المرتزقة واللصوص وسراق المال العام، أطمح أن نبني بلداً تضيء طرقاته أنوار مشعة، أتيت لكي لا أرى انقطاعاً في الكهرباء ولا سوءاً في الخدمات.. يا ابني البلد أمانة في أعناقنا، فلنختر الشخص المناسب وهو أمام الله مسؤول عن عمله،” أخبرته بأني أعد استطلاعاً لمجلة، فهل اسجل هذا الكلام؟ قال: “يا ابني أتمنى أن يخرج جميع العراقيين -وأنا أولهم- نساءً ورجالاً لكي لا نقع في نفس الإشكال، هذه مناسبة وفعالية مهمة، ألا تجد أن شعوب أميركا والعالم الغربي يمارسونها وينتظرونها بفارغ الصبر فلماذا لا أخرج؟” طيب ما أحلامك وأنت معي؟ يخبرنا العم أبو خالد: “أحلم ببلد قوي تهابه دول الجوار، نعيد فيه الصناعات المحلية وننمي اقتصاده عبر الزراعة، ألا ترى دجلة والفرات يجريان فيه، فهما نهران كفيلان أن يعيدا واقع الزراعة، وربما الاكتفاء الذاتي بإنتاج المحاصيل، يا بني إنه العراق الذي تهابه الدول!”
في مركز مدينة الحلة القديمة كان هناك أكثر من امرأة عجوز ورجل مسن يحثون خطاهم باتجاه مراكز الاقتراع. توجهت بكل هدوء نحو أم محمد وهي تتقدم مع ابنها، ألقيت عليهما التحية الصباحية، فأجابت بكلمة نحبها جميعاً “هلا وليدي يحفظك الرحمن.” سألتها: تسمحين لي أن أتحدث معك؟ فأجابت: “تفضل وليدي.” لماذا تريدين المشاركة؟ أما كان الأفضل أن تبقي في البيت؟ محمد وإخوته وأخواته (يكفون)، أجابت بنبرة عراقية تراثية “انت شلون تقبل؟ أنا وأنت والجميع عليهم الخروج في مثل أية مناسبة فرح وسعادة، هذا يوم وطني مهم نخرج فيه من بيوتنا من أجل تحقيق أحلام الجميع.” قلت لها (شنو حلمك) وأنت في هذا العمر؟ أجابتني بعبرة “حلمي حلمكم جميعاً، نحلم بالسلام، بالبناء والإعمار، نترقب أن نجد صوتاً برلمانياً يدافع عن المهجَّرين والمعتقلين، عن الأرامل.. يجد حلاً لمشاكل المطلّقات، كان يفترض أن تكون هناك فرص عمل للشباب، إذا لم أنتخب من أجد فيه الصفات الإنسانية التي تلهب حماسه، كيف أحصل على طموحي؟ نعم أنا امرأة كبيرة، لكن أحلامنا أكبر منا، لنحقق بعضها، إذا لم تكن كلها.”
سعيت جاهداً وأنا أتجول في محافظة بابل أن ألتقي بكبار السن، فمنهم أتعلم دروس الإنسانية، ومن تجاربهم وأحلامهم أتعرف على نصائحهم، وبينما أنا أفكر بمن سألتقي، صادفني العم أبو شروق، أحد متقاعدي وزارة الكهرباء. بعد التحية والمجاملة سألته: يبدو عليك التعب، “إي والله يا أخوي”، هكذا أجابني. إذن لماذا أنت هنا؟ “أنا هنا كغيري أريد وطناً، أريد إعماراً، أريد رؤية أسواق تعج بالناس، مستشفيات تحتوي أحدث أجهزة العلاج المتقدم.” قلت له: هل حضورك سيوفر كل ما تتمناه؟ أجابني بلغة أقرب إلى التعجب: “إذن ما الجدوى من الانتخابات، اسمع مني (يا اخوي).” بهذه اللغة البسيطة يخاطبني أبو شروق: “إذا لم يخرج الجميع، لن تتحقق أحلامهم، أمنياتهم ستبقى حبيسة في صدورهم، الندم يأكلهم مثلما تأكل النار الحطب، إنها فرصة أثمن من الذهب وإلا سنندم جميعاً لأننا بقينا في بيوتنا.”
وأنا أتجول بين أقضية ونواحي محافظة بابل، قررت أن أذهب لزيارة والدتي في مدينة المحاويل لأطرح عليها ذات الاسئلة التي وجهتها للمساهمين في هذا الاستطلاع. سألتها إن كانت لها الرغبة في الذهاب للمشاركة، ابتسمت في وجهي وقالت: “كنت انتظر قدومك.. فلنذهب.”